فاطمة ناعوت
يا سيادة الرئيس، أعلمُ تقديرك للدور الخطير الذى تلعبه القوى الناعمة فى إعادة بناء العقل المصرى. ولا أنسى، فى أحد لقاءاتنا بك، مقولتك: «أنتم المثقفين، قاطرة النهوض بالمجتمع». لهذا أرفع إليك شكوى مثقفى مصر من الحال المُزرية التى آل إليها مجمعُ مسارح العتبة: (القومى- الطليعة- العرائس). إشغالاتٌ عشوائية بلغت من الكثافة مبلغًا يستحيل معه وصول سيارة إطفاء للمسرح لو نشب حريقٌ، لا سمحَ اللهُ. وبلغت من القبح مبلغًا يؤذى الناظرين. أسلحةٌ بيضاءُ تُباع على باب مسرح يرتاده الأطفال!. تحرّشٌ فاضح بالفنانين فى الدخول والخروج!. وبلطجيةٌ امتلكوا زمامَ الأمر فى بقعة تُعتبر مزارًا سياحيًّا، كونه معقلًا ثقافيًّا يضم مسارحَ عريقةً وجليلة.. أمورٌ مخجلة لا تليقُ باسم مصر يا سيادة الرئيس، ولا تليقُ بهيبة مسرح وقف عليه فنانون عظماءُ ليقدموا روائعَ أريستوفانوس وسوفوكليس وشكسبير وبريخت!
الأمرُ ليس جديدًا، بل يمتدُّ لأكثر من خمسة عشر عامًا. جميع من مرّوا بنا من وزراء ثقافة كافحوا لحلّ تلك المشكلة. بعضهم نجح برهةً من الزمن، ثم يعود الأمرُ على قبحه من جديد. عام ٢٠١٥، مع إعادة افتتاح المسرح القومى، نجح المهندس إبراهيم محلب رئيس الوزراء آنذاك، ومحافظ القاهرة د. جلال السعيد، فى إزالة الإشغالات وتنظيف المنطقة بالكامل. وكالعادة، عاد الأمر سيرته الأولى مع الحكومة التالية. وكأن النظافة والجمال مرهونان بأشخاصٍ ومناصبَ!
ومن خلال صرختى إليك يا سيادة الرئيس، أرفع شكوانا، جموع مثقفى مصر، إلى السيد رئيس الوزراء، والسيد وزير التنمية المحلية، والسيد محافظ القاهرة، بسرعة إنهاء تلك المهانة الحضارية فى أسرع وقت، وعلى نحو نهائى، لا يُعيد إقحام تلك المشاهد القبيحة فى إطار لوحة بديعة فائقة الجمال: مجمع مسارح العتبة. بوسعنا إيجاد مكان آخر للباعة فى منطقة أخرى، حتى لا نقطع أرزاقهم.
يا سيادة الرئيس، المسرحُ ليس مكانًا للترفيه، بل«أداة» خطيرة تعلو بالعقل الجمعى للمجتمع. لهذا قال قسطنطين ستانسيلافسكى: «أعطنى الخبزَ والمسرح، أُعطك شعبًا مثقفًا». فالخبزُ لعيش الجسد، والمسرح لحياة العقل والروح. الخبزُ يجعلنا «نعيش»، والمسرح يجعلنا «نحيا». الخبزُ دون مسرح يضمن عَيشَنا، كما تعيش الدوابُّ والهوامُّ والقوارضُ والحيوان. بينما المسرح يجعلنا كائناتٍ ممتازة تفكّر وتبتكر وتتطوّر وتحبُّ وتنهض بالمجتمع. فننتقل من خانة المستهلِك، إلى خانة المنتج، وهى الخانة العليا للإنسان.
يا سيادة الرئيس، أعلمُ حرصكَ على إنشاء جيل مصرىّ واعٍ يرسمُ غدًا أجمل لمصرَ. لهذا أضعُ على مكتبك المشحون بالهموم والتحديّات ملفَ «مجمع المسارح» بوصفه: «عاجل: قضية أمن قومىّ». لأن قلبَ مصرَ، وعقلَها، وقوتها الناعمة، بل شرفها ذاته، مغروسٌ بقسوة فى كفِّ الخطر!
ميدان العتبة الذى كان يومًا أحد أرقى ميادين القاهرة، تُطلُّ على باحته «دار الأوبرا» القديمة فى فخامتها وأبهائها، ويرتاده نبلاءُ مصر وأميراتُها فى صحبة عظماء العالم، صار اليوم مرتعًا للبلطجة والحوشية؛ يصكُّ المسامعَ بفواحش القول، ويقتل الروح بقبيح السلوك، ويصدم العيونَ بدميم المشاهِد. لكنّ فى قلب ذلك القبح ثلاثَ بقعٍ من الجمال تختنق: المسرح القومى، مسرح الطليعة، مسرح العرائس. وتصير أربعًا، إن أضفنا سور الأزبكية الذى كان أحد أكبر مُعلّمينا فى صبانا الأول.
يحدثُ أن أدعو أصدقائى من أدباء العالم لزيارة مصر. وأصحبهم لمشاهدة عرض بدار الأوبرا، أو مسرحية فى القومى. حين نزور «دولة الأوبرا» أسير أمامهم رافعةَ الرأس محتشدةً بالفخر والعِزّة. وحين أصطحبهم للقومى أو الطليعة تهربُ منى كلماتُ التبرير وهم ينظرون بهلع إلى محيط حرم المسارح، ولا يمنعهم عن التعليق إلا تهذّبهم. فأجد نفسى أتمتم بكلمات من قبيل: «هذا وضعٌ مؤقت، والدولة المصرية لا تقبل ما ترونه هنا. فكلما نظفنا المكانَ من الإشغالات، عاد الباعةُ أدراجَهم، ولابد من نهاية وشيكة. أغمضوا عيونكم يا أصدقائى، واستعدوا لهدر الجمال والفن الرفيع الذى ستشاهدونه على خشبة المسرح بعد قليل».
هل تتصور يا سيادة الرئيس أن نصطحب أطفالنا إلى مسرح العرائس لمشاهدة عرض يُثقِّف طفولتهم، فيشاهدون على بوابة المسرح أحذيةً وحقائبَ وملابس داخلية، بل سنج ومطاوى معلّقة على سور المسرح، ومنثورة على الأرصفة؟!
نتمنى أن يكتمل مشروع «مجمّع مسارح الدولة»، الذى يضمُّ القومى والطليعة والعرائس مع حديقة الأزبكية، ويحدّه سورٌ عازل يفصل تلك المنابر الثقافية الرفيعة عن أجواء الشوارع المحيطة.
الفنون الرفيعة ليست ترفًا، إنما هى سيفٌ ماضٍ لمقاومة أدران المجتمعات، ومشعلٌ مضواء لإنارة بقاع الظلام فى النفوس والعقول، ومدرسة لتعليم ما فاتنا تعلّمه على مقاعد الدرس من قيم ومبادئ. «الدينُ لله، والوطنُ لمن يحبُّ الوطن».
نقلا عن المصرى اليوم