خالد منتصر
كيف تكون ناقداً دون أن تكون ناقماً؟!
هذا ما علمنا إياه الراحل الجميل يوسف شريف رزق الله، هناك شبه بديهية منتشرة الآن بين معظم شباب النقاد والكتاب، خاصة بعد انتشار «فيس بوك»، وهى أن معنى النقد هو التطاول وقلة الأدب والتجريح، وأن هذا هو باسبور نجاحك فى عالم النقد، ومنحوا ذلك التطاول اسماً دبلوماسياً عجيباً وهو التحفيل!! لكن يوسف شريف رزق الله ظل أيقونة أخلاقية ونموذجاً مثالياً، كيف تنتقد دون غل أو سواد أو تصفية حسابات، بداياته التى كانت خلف الكاميرا معداً لأهم البرامج التى علمتنا فن السينما، وعلى رأسها وفى مقدمتها «نادى السينما» و«أوسكار»، هذه البداية جعلته لا يهتم إلا بالمضمون، لا بالشو واستعراض عضلاته والقتال من أجل بقعة ضوء أو زووم كاميرا، ظلت قضيته حتى رحل، كيف تتذوق هذا الفن السابع، فن الأطياف الملونة والأفكار الثورية والصورة التى تنطق بديلاً عن آلاف المجلدات، تعلمنا جميعاً فى مدرسته كيف نقرأ فيلماً سينمائياً، وعندما ظهر على الشاشة، تعلمنا من صوته الهادئ وألفاظه المنتقاة وعباراته الرصينة ولغته المتدفّقة وتمكنه من ناصية أكثر من لغة وانفتاحه على الدنيا.. إلخ، تعلمنا كيف أن المثقف الثرى فكرياً هو إنسان فى منتهى التواضع ودماثة الخلق، حتى عندما تولى الإدارة فى أكثر من جهة، ومنها مهرجان القاهرة السينمائى كان الحاسم الصارم، لكن بدون قسوة أو عنف أو فاشية.
هو كوكتيل مدهش يمنح صاحبه جدارية ثقافية وثراء إنسانياً قلما يتكرر، خريج جيزويت، متفوق فى دراسته جداً، فقد كان الخامس على الجمهورية فى الثانوية العامة، متميزاً فى كلية سياسة واقتصاد، ثم يترك هذا التخصّص وجاذبية السلك الدبلوماسى وضمانة أن يكون ضمن الطاقم الحاكم بأمره، ويطرق باب ماسبيرو، حيث منح كل مصر، من وزيرها إلى خفيرها، تصريح المرور إلى كلاسيكيات السينما الغربية، كيف تكون وأنت تتعامل مع بؤرة الضوء فى فن متخم بنرجسية العدسات واللقطات والكادرات، كيف فى وسط هذا كله تكون زاهداً، لا تهتم إلا بقضيتك الأولى، التثقيف السينمائى ورفع درجة الوعى الفنى، كيف تكون متصالحاً مع نفسك، محباً لنجاح الناس، عاشقاً لبناء الصرح تلو الصرح لزملائك وتلاميذك؟! هذا ليس رثاء ليوسف شريف رزق الله فقط، لكنه رثاء للقيم الجميلة الغائبة عن ساحتنا الفكرية والنقدية، رثاء لمن كان يبذر دون أن ينتظر الحصاد، رثاء لمن خاصم الأنانية، وكان على يقين بأن نجاحه وهو فى الظل يجهز لمشروعه الثقافى مضمون، لأن المشاهد كان يعرف جيداً أن الجهد الموجود خلف تلك الشاشة من صناعة ونسج هذا الجميل اليوسفى الجمال، الشريف النقاء، المرزوق من الله بحب الناس.
نقلا عن الوطن