القمص أثناسيوس جورج
كنتُ أصدرتُ كتابًا عن ”جهال من أجل الله“ في سنة ١٩٩٤. يضم هذا الكتاب سيرًا لآباء من روسيا ، عاشوا حياة ضيِّقة ، اغتصبوا بها الملكوت اغتصابًا، حتى لا تتزحزح منارتهم أو يسرق أحد إكليلهم. عندما سبقت حياتهم أفواههم ؛ واقترنت بسلوك فائق القداسة والخفاء... ضيعوها فوجدوها ؛ وباعوا العالم ليشتروا مَنْ اشتراهم. عملوا أعمالاً أبدية لا تُرىَ ؛ بطاعة وعهد عقدوه مع عريسهم السماوﻱ ؛ حيث تكلمت عنهم فضائلهم ؛ وصارت أعمالهم هي التي تعلِّم ... لم يقيموا وزنًا لأنفسهم ؛ لأنها لم تكن ثمينة عندهم ، ولا كانت شركتهم مع السيد عقلية أو لسانية ؛ بل بالإيمان وعمل الخفاء ، الذﻱ صار لهم حياةً لا موتًا ، كرامةً لا احتقارًا ، رجاءًا لا خزيًا ، بشارة فرح لا أنين حزن.
ويحتوﻱ البستان على سيرة رائعة لراهبة ؛ كانت راهبات ديرها يستهزئن بها ويلقبونها ”الهبيلة“ وهي لم تكن هبيلة ، ولم تتصنع الجنون أو ”الهبل“؛ بل كانت سويَّة مفضلة الآخرين عنها ، تخدمهن بكل جوارحها ؛ وتعاملهن بمحبة مفرطة للغاية.
وقد ظهر دليل سوية نفسها ؛ عندما هربت بعد اكتشاف سر حياتها وشركتها الوثيقة مع الله ، أﻱ أنها لم تكن تهدف من وراء سلوكها أن تستدرّ عطفًا أو مجدًا من الناس ؛ لكنها كانت تخفي فضيلتها ؛ لئلا تُمدح لأجلها. لذلك سُمّيت ب ”الهبيلة“؛ بينما هي السوية في نظر التحليل النفسي ؛ لأجل ”إيثارها الآخرين على نفسها“.
كانت مثلاً للوداعة والطاعة والبذل المستميت لإخوتها ، بطريقة جعلتهن يستهنّ بها ؛ ويعتبرنها مجنونة العطاء ؛ بعد أن أفنت جسدها ووقتها في أعمال المحبة. مختارة للأشغال المتعبة والحقيرة .
الأمر الذﻱ جعل آخرين يعتبرونها منبوذة ؛ تأكل من فُتات المائدة ؛ وتغسل الأواني ؛ وتلف رأسها بخرق بالية ؛ حتى أن رئيسة الدير كادت أن تطردها بسبب استعلاء الراهبات ووشايتهم ضدها.
إنها لم تكن مدافعة عن نفسها ؛ بل تركت الحكم للحاكم... لم تدن أحدًا ؛ ولم تُهِنْ أحدًا ؛ ولم تقيِّم أحدًا أو تحكم على أحد. مبتعدة عن الثرثرة والدمدمة. ووصلت في نفسيتها المتذللة بسبب معاملات أخواتها الراهبات لها ؛ إلى حد أنها لم تجد في نفسها الاستحقاق ولا الأهلية ؛ لأنْ تشترك معهن في استقبال أنبا دانيال القمص ، حينما توجه إلى ديرها ، بناء على إلهام واستبصار روحي وسماوﻱ، يستهدف إنقاذها والكشف عن تلك الراهبة ؛ التي خطت على خُطَى مسيحها الفقير الأبدﻱ الذﻱ ظُلم ولم يفتح فاه ”ظُلم ؛ أمّا هو فتذلل“، وهي كذلك لم تظلم أحدًا ؛ ولم تفتخر على أحد.
راهبات ديرها استنكفوا أن تأتي في حضرة قمص شهيت ، واستحسنوا أن لا تأتي في محضره ؛ لأجل هيئتها غير المشرِّفة في عيونهم. فأنكروا وجودها ؛ لكنهم استجابوا لإلحاحات أنبا دانيال عندما طلبها ؛ بينما ردت عليه رئيسة الدير مستنكرة بل ومستهجنة قائلة له ”أتقصد الهبيلة“؟؟! وكأنها نكرة وشيء لا وجود له. وهنا أجاب بالإيجاب قائلاً : ”بل هي أمي وأمكم“ ، عندئذٍ توجه في منتصف الليل إلى قلايتها مع تلميذه ، وتطلَّع إلى الطاقة ، فنظر نورها ويديها المشعتين بالارتفاع.
لكن الهبيلة حالما علمت أن سر حياتها قد انكشف (أﻱ علو ووثوق شركتها مع الله) ، وأنهم رأوها في حالة تجلٍّ ينبعث منه النور ، والملائكة تسجد معها. حتي ان رئيسة ديرها اندهشت قائلة : ”الويل لي أنا الخاطئة... لقد كان عطاءها غير المعقول هو العقل بعينه ، وبذْلها بجنون كان منتهَى الحكمة ، وعطاءها من الإعواز وصل الي الإمحاء“.
وللحال في هجعة منتصف الليل هربت الهبيلة ، فلم يأتِ عليها الصباح وهي في الدير ، بعد أن برّأت ساحة الجميع بسوية واقتدر المتحدين والأحياء بالله... تركت موضعها حتى لا تنقلب إهانتها إلى تمجيد وافتخار. الأمر الذﻱ يبتعد عنه القديسون ؛ ويهربون منه إلى حد الموت. لذلك فرّت من العظمة وفخ الافتخار ، مختفية في البرية ، بعد أن كتبت للراهبات بأنهنّ قديسات ولا عيب فيهنّ ، وأنها مسامحة لجميعهنّ ، وتطلب بركتهن ورضائهن عليها وصلواتهن لأجلها.
إنها نموذج للغفران والمسامحة التي قد تبدو مستحيلة ؛ لكنها ممكنة ومستطاعة في المسيح وبقوة نعمة صلاحه... لقد وضعت نفسها فارتفعت ؛ وصارت في الوضع الأدنىَ ؛ لأنها رأت نفسها كلا شيء... لكن الله ضمد جراحاتها ومسح دموع تعييرات معييرها ؛ واستجاب لانسحاقها واحتمالها للإهانات التي انهالت عليها من الراهبات ورئيستهم ، فأتاها العبد المتألم وأيّدها في الإنسان الباطن. لذا أتت أعمالاً لا يقوىَ عليها إلا النابهون بكل فطنة التمييز. وليس أعظم عند الله من النفس العاقلة بالتوبة ؛ التي تهرب من فخاخ إبليس ومحاربته لها بالمرصاد كأسد زائر.
فالعالم بأسره لا يساوﻱ نفسًا واحدة كهذه ، عاشت مشاركة لعمل الروح القدس؛ متجردة من الأهواء والشهوات ، خالدة وباقية وستدوم ، وأعمالها شاهدة على نوع حياتها وحرية دعوتها في مجال الفعل ، بحذر وتستر شديد على ميراثها الثمين (حذر لا خوف).
محتمية بمتعة عيشها مع المخلص عريسها الذﻱ أغناها وأشبعها ورفعها فوق كل عزاء بشرﻱ. حتي كشفت أعماقها لا عن هبل أو اصطناع ؛ بل عن عالمها الداخلي الصغير Micro cosmos الذﻱ انضبطت فيه العلاقة بين جسدها ونفسها وروحها المنسجمة غير المنقسمة مع ما اختارته بحرية ؛ لتسلك فيه عن قناعة ، في دائرة النعمة حتى تستوطن عند الذﻱ سيَّج حولها ؛ ووهبها غلبة على تجاربها ، وحوّل حزن تعييرها إلى فرح وكرامة نتوارثها لنقتدﻱ بها عبر كل هذا الزمان ؛ لخلاص مستعد أن يُعلن في الزمان الأخير.
إن لكل سيرة مقامها وزمانها وقامتها ، ولعل هذا التدبير يتناسب مع الكاملين فقط؛ لأن التجار عديمي الخبرة يلحقون بأنفسهم خسارة فادحة ؛ إذا اشتغلوا بتجارة واسعة.
فلكل عمل نظامه ؛ ولكل سيرة أوانها وطريقتها.
وهنا أنبِّه الذين تستهويهم الأعمال المميزة لا الأعمال المتوسطة . لا تحمِّلوا أنفسكم أعمالاً عسرة الحمل ، غير متدرجين تحت إرشاد ؛ لأن هذه الأعمال والأخبار إنما تقتنىَ بتعب وجهاد كثير.
إنها دعوة ليست للجميع ؛ حتى لا تختلط الأمور عند البعض ؛ ويظنون أن كل من يهتبل قد صار قديسًا ؛ دون فحص لمحتوى السيرة ؛ وقياسه على المعايير الروحية وقوانين الآباء الذين عاشوا من أجل الأمور التي من أجلها اشتهى أناس أن يموتوا ، ونالوا ما اشتهوا ؛ متخذين الجهالة سُلّمًا مؤديًا إلى ملكوت الدهر الآتي. رافضين التمجيد والمديح ؛ قابلين المحقرة والمذمة والافتراء كحقيقة. فبدوا كجهلاء ومجانين؛ بينما هم العقلاء والحكماء الناضجون الجديرون بالإعجاب ، من أجل زُهدهم واتهامهم بعدم الترتيب كمَنْ لا عقل لهم ؛ وهم الكاملون والمرشِدون.
لقد رأيتُ أن نرجع إلى السيرGod’s Fools (The lives of the holy fools) التي كنتُ أعددتها من سنين (سنة ٩٤) ، لنُزيل من عليها طبقات الأتربة ، التي تراكمت عليها ، وسط الأجيال المصابة بالأرستقراطية الذهنية والعقلانية الفجّة ، والمولعة بالدراسات النقدية السلبية والتشكيكية ؛ كي ترى هذه النفوس التي سَمَتْ فوق كل شيء ، عالية كما بأجنحة سرية ؛ في فقر وإنكار ذات اختيارﻱ ، مجهولين ومغمورين لدى العالم ؛ لكنهم معروفون عند الله. لم يعيشوا في قصور منيفة ؛ ولم يتحكموا في مقتنيات بذخ الدنيا ؛ لكنهم امتلكوا سلامًا وفرحًا وراحة سماوية ، جهال من أجل المسيح (١كو ٤ : ١٠). ذوو سيرة خفية عطرة من دون تصنع أو افتعال ؛ سِيَر انسحاق ؛ وليست كما صورت (الأفلام) تصرفاتها ؛ بأنها خارج دائرة الاتزان واللياقة الأدبية والعقلية والنفسية السليمة. سِيَر لا تدّعي الجنون ولا إتيان الأعمال غير المهذبة أو غير المألوفة ؛ لكنها حكمة الكاملين التي أخفوها ليحفظوها ؛ وخبأوها في داخلهم ليدّخروا أجرهم ويحفظوا كنزهم مخفيًا عن أعين من حولهم.
لهذا نَعَتَهُم الذين لا بصيرة لهم ؛ بأنهم مجانين. وها قد أبصرنا مَنْ كانت الهبيلة المزدرىَ بها ؛ وكيف حال حقيقتها ، فيا لَهُ من اختبار عالٍ ؛ وإكليل مميز لا يقدر على اقتنائه إلا المدعوون والمختارون