عاطف بشاي
جاءت ثورة يونيو تسعى إلى استعادة مصر من براثن قراصنة جماعة الإخوان التى اغتصبت السلطة وتاجرت بالدين ونهبت خزائن الدولة وفرطت فى الوطن واستباحت الدماء وأشعلت الفتنة وأنهكت حقوق المرأة.. وحاولت تغيير هوية «مصر» وتنفيذ مشروعهم الخاص فى إقامة دولة دينية وتنفيذ وتطبيق الشريعة.. وقد عمل أرباب «التمكين» بجهد متصاعد على الدفاع عن وجودهم حتى الرمق الأخير والاستمرار فى الحكم لخمسة قرون كما صرح وقتها «خيرت الشاطر»، مخطط فعاليات ذلك التمكين فى خطوات تجعل «مرسى» محاولاً تنفيذها فى زمن قياسى وقد ناصبوا الثقافة والمثقفين العداء الذى بدأ من اليوم الأول لحكمهم وسط مناخ تكفيرى متوحش بالتضييق على حرية الإبداع والتنوير والعودة إلى تكفير «نجيب محفوظ» بعد محاولة اغتياله على يد سماك بصفته محرضاً على الفجور والرذيلة ومناهضاً لأحكام الدين ونواهى العقيدة.. وشملت تهمة ازدراء الدين «عادل إمام» الذى حوكم بموجبها مرتين.. وتصاعد نشاط الظلاميين فوصفوا الحضارة الفرعونية بالعفن.. وأطاحوا برأس تمثال عميد الأدب العربى «طه حسين» فى مسقط رأسه بالمنيا.. واعتبروا الآلات الموسيقية غير جائزة شرعًا.. والموسيقى حرامًا.. مطالبين بإلغاء النشيد الوطنى وتحية العلم لمخالفتها الشريعة الإسلامية لكونها بدعة.. بالإضافة إلى المحاولات المتكررة لإلغاء الحفلات الموسيقية الغنائية وبروفات العروض المسرحية.. وتغطية صدور النساء فى لوحات الفنان «عبدالهادى الجزار» والدعوة إلى تحطيم «الأهرامات» وتمثال «أبوالهول» باعتبارها أصناما وأوثانا تعبد حتى الآن.
أعلن المثقفون غضبهم الجامح.. وبدأ التعبير عن هذا الغضب باستقالة الشاعر الكبير «أحمد عبدالمعطى حجازى» من رئاسة تحرير مجلة «إبداع» كما استقال من رئاسة بيت الشعر التابع لصندوق التنمية الثقافية.. كما استقال الشاعر الراحل «فاروق شوشة» تضامناً مع «حجازى» وكذلك الشاعر «أبوسنة» تعضيدًا لهما.. وقدم الروائى الكبير «بهاء طاهر» استقالته من المجلس الأعلى للثقافة.. أما «عمر خيرت» فقد ألغى حفلاً غنائياً كان مقررا أن يقام.. كما قرر عدم تقديم حفلاته بالأوبرا حتى يتم إقالة وزير الثقافة الإخوانى.. أما «هانى شاكر» فقد أعلن اعتزال الغناء فى الأوبرا نهائياً.. ذلك أن الوزير استهل عهده بالمنصب بالإطاحة بقيادات وزارة الثقافة.. مقرراً إنهاء انتداب د.«أحمد مجاهد» رئيس الهيئة العامة للكتاب ود.« إيناس عبدالدايم» رئيس الأوبرا وقتها.. ود.«صلاح المليجى» رئيس قطاع الفنون التشكيلية.. وما يعنيه ذلك- كما صرح حجازى وقتها- من معاداته للإبداع.. والتنكيل بالمعارضين.. وتكميم الأفواه.. ومحاولة تزوير التاريخ وتزييف الحقائق.. وبالتالى تدمير وتخريب الثقافة المصرية الوطنية لصالح مشروع الأخونة المعادى للدولة المدنية.. وذلك لتحقيق الهدف الأسمى والأبقى.. وهو إقامة دولة الخلافة الدينية.
ولكنى رأيت وقتها أن موقفهم بالاستقالة من مناصبهم وامتناعهم عن ممارسة فنونهم هو خطأ فادح.. لأنهم بذلك يبدون وكأنهم يتضامنون مع الوزير.. فقد قدموا له ما يريده بالضبط.. وفى أسرع وقت أعفوه من مغبة أن يبادر هو إلى إقالتهم وفى إلغاء نشاطهم.. والغريب فى الأمر أن هؤلاء المثقفين هم الذين ظلوا يضغطون على الوزير السابق د.«صابر عرب» ليبقى فى منصبه ويتراجع عن الاستقالة.. حيث أقنعوه بأن وجوده على رأس وزارة الثقافة فى ذلك التوقيت مهم جداً لحماية الدور التنويرى المنوط به.. وحذروه من الاستقالة حتى لا تأتى حكومة الإخوان بوزير إخوانى.. إن هؤلاء هم أنفسهم الذين يقدمون استقالتهم- أو يشجعون الذين يقدمون استقالاتهم من مواقعهم فى الوزارة- يفسحون الطريق بالتالى لتحقيق أجندة الأخوان على خير وجه من خلال إطلاق يد الوزير فى تعيين قيادات إخوانية تحقق التكليفات المطلوبة لأخونة الوزارة بسهولة ودون عناء أو مقاومة من أحد.
ودعوتهم من خلال مقال لى أن يحمل «عمر خيرت» قيثارته ويعزف فى الشارع أمام الأوبرا وفى الميادين.. ويغنى «هانى شاكر» فى الجماهير المحتشدة.. ويصدح «أحمد عبدالمعطى حجازى» بقصائده فى الطرقات.. فالفنون لا تستقيل.
وبالفعل تحقق ما كنت أحلم به.. انتفض المثقفون الأحرار معبئين ببارود الغضب.. معمدين فى مياه الجسارة.. واندفعوا يقتحمون وزارة الثقافة قبل الثورة بأسابيع مرتدين قفازات الرفض والاحتقار لثقافة الهكسوس وجهالة أهل عهود الظلام وتصحر دعاة التكفير والكآبة.. وأغلقوا وزارة الثقافة بالجنازير فى وجه القبح والتخلف والدمامة.. وأشعلوا مصابيح التنوير والخلق والإبداع.. ورقصوا وغنوا.. وعزفوا للنهر المستباح والوطن الجريح ودماء الشهداء.
إن المثقفين قادوا إذن كتيبة التمرد والغضب.. ليساهموا فى إشعال الثورة الجديدة مؤكدين أن الإبداع لا يموت وثقافة التنوير لا تحتضر.. وحرية الرأى والفكر لا يمكن لأعداء العقل سحقها.. وحركة التاريخ تنحاز للمدنية والحداثة والتجديد وحرية الاختلاف والتنوع ولا تنتصر للجهل والجمود والإرهاب والمتاجرة بالدين.
وستظل الحضارة المصرية صامدة فى الزمن.. خالدة فى الذاكرة.. بينما يمضى المكفرون والظلاميون وأعداء الثقافة والحرية إلى مزبلة التاريخ.
نقلا عن المصرى اليوم