نوال السعداوي
الساعة الخامسة مساء السبت 13 يوليو 2019، دق جرس التليفون الأرضى، الجهاز الأسود القديم، يُذكِّرنى بسنوات الطفولة والشباب، حين كنت أنتظر رنينه، أقفز المسافة بينى وبينه، متلهفة على سماع صوته: «نوال»، ينطق اسمى: «نوال»، كيف عرف اسمى من بلايين الأسماء فى الكون؟!، ترن الكلمة: «نوال» رنينًا جديدًا، ليست هى أنا «نوال» القديمة، لكن «نوال» أخرى، من كون آخر، نوع آخر من البشر، مصنوع من النور، من ضوء النجوم، جسمى شفاف خفيف، أحمله وأطير، يأخذنى إلى كازينو الحمام على شاطئ النيل فى الجيزة، الحب الأول فى حياتى، كنت فى التاسعة عشرة من عمرى فى السنة الأولى بكلية الطب قصر العينى.
رنين الجهاز الأسود القديم يُذكِّرنى بالطفولة، يقاوم أجهزة المحمول التى طغت على وجوده، وكاد ينتهى لولا تشبثه بالحياة. مددت يدى وأنا راقدة فى الفراش، ورفعت السماعة.. مَنْ يكلمنى الآن؟، لا أحد يكلمنى منذ أصابنى المرض، انْفَضَّ من حولى الأصدقاء والصديقات والأهل والأقارب، وكانوا يلتفون حولى وأنا فى ريعان الشباب وفى قوتى واكتمال صحتى.
«ألو.. مين؟». جاءنى صوت لم أسمعه من قبل. قال: «أنا ميلاد حنا- يا دكتورة نوال- سكرتير تحرير الرأى بـ(المصرى اليوم).. النهارده السبت، ولم يصلنا مقالك». تنبهت من خلال الألم أننى كنت فى المستشفى منذ الصباح، وأجريت العديد من الفحوصات والتحاليل والأشعات. كلها جاءت سليمة، ليس بى مرض، فما الذى يُلْزِمنى الفراش، وما الذى جعلنى عاجزة عن مواصلة حياتى الطبيعية، أهى الأخبار المنشورة فى الصحف عن العالم الدموى الغارق فى الفلوس، التجارة، الحروب، البيزنس؟، نسيت أن اليوم السبت موعد إرسال مقالى إلى «المصرى اليوم»!.
قلت: «آه.. تذكرت يا أستاذ ميلاد.. سأبدأ كتابة المقال الآن.. أشكرك على الاتصال.. ما آخر موعد لتسليم المقال؟». قال: «سأحجز لك مساحة فى الصفحة حتى العاشرة مساء، أرسليه وقت الانتهاء منه.. يا دكتورة نوال لن أتعجلك، خذى وقتك فى الكتابة.. أنا أحب كتاباتك وأتابعها منذ زمن طويل». قلت: «أشكرك.. أنت نموذج مختلف من الناس الذين يعملون فى مهنة الصحافة، وما يسمونها المهن الحرة، مثل الطب والمحاماة والهندسة والتعليم والفن، التى تحولت كلها إلى تجارة، وعلاقات نفعية تمتهن كرامة الإنسان. أنت نموذج مختلف من الصحفيين. دائمًا ترد على رسائلى بـ(الإيميل)، لتُطَمْئِننى على وصول المقال سليمًا وصحيحًا، وإن تأخرت تكلمنى. هذا لا يحدث إلا نادرًا، فلا أحد يهتم بما نكتب، ولا أحد يؤكد لنا وصول المقالات التى نكتبها. سوف أكتب المقال الآن، وسأبدؤه بهذه المكالمة بيننا، والتى أعادت لى الثقة فى هذا العالم القبيح الذى تلاشت فيه المبادئ واستقامة الأخلاق، وتحول كل شىء إلى سلعة للبيع والشراء، حتى الصحافة والأدب والفن والرياضة والطب والثقافة. لهذا ننتقل من فشل إلى فشل، ومن هزيمة إلى هزيمة. ونتصور مثلًا- كما فى كرة القدم- أن الهزيمة فى القدم وعضلات الساقين، لكن الهزيمة فى العقل، وفى اختفاء النبل والإنسانية».
من خلال الألم، يتبدى العالم أكثر وضوحًا، وتضىء الأركان المظلمة التى لم نكن نراها، اكتشفت كم خُدعنا منذ الطفولة.
رنين الجهاز الأسود القديم أعاد ذكريات الطفولة. تذكرت حينما فرحنا ونحن أطفال بمجىء أبى حاملًا معه جهاز التليفون لأول مرة، فى بيتنا فى الجيزة. سمعنا الرنين، وأخذنا نتصل بالناس والأقارب والأصدقاء. وكم كانت فرحتنا، قبل ذلك بسنين كثيرة حينما اشترى أبى جهاز الراديو، الصندوق المربع وله واجهة مثقوبة، تنفذ منه الأصوات والأغانى والموسيقى. وحينما عرفنا الفاكس، الذى يرسل أوراقى المكتوبة إلى الجريدة، ثم أصبحنا نستخدم الكمبيوتر، بالضغط على زر، يطير بما أكتب إلى أى مكان أشاء.
بدأت أكتب، وأستعيد الذكريات، كنت منذ تجربة المرض والألم قررت أن أتوقف عن الكتابة لهذا العالم الذى لا يستحق كلماتى الصادقة النابعة من أعماقى، وأن أقطع علاقتى بالصحف والمجلات، وأن أقاطع هذا العالم.
أكثر سوءًا من الغابة. لا قيمة لإنسان فيه، إلا بالفلوس، والقوة الباطشة، والسلاح، وإحكام السيطرة، والتسلط، والهيمنة. عالم جرّدنى من الحياة، من الطمأنينة، ووسائل الراحة، فأنا فى نهاية العمر، وبعد أن أفنيت نفسى فى الكتابة لأحرر العقل من عقاله، وأطلق سراحه ليحلق فى السماء ويكسر القيود، ويبدع فى مجال العلم والفن، لا أجد مَن يرعانى فى مرضى، أخدم نفسى بنفسى، أجر الممرضة أو الطاهية يساوى معاشى بالكامل، أتحمل ألم المرض وحدى لأننى تمسكت بنفسى الحقيقية،
ولم أتاجر فى سوق الطب والأدب.
لكننى لا أندم أبدًا، وأواصل الكتابة، حتى آخر رمق، وربما أبدأ فى كتابة الجزء الرابع الأخير من سيرتى الذاتية «أوراقى حياتى».
رنين الجهاز الأسود القديم سمعته منذ لحظات، قبل أن أبدأ هذا المقال، وفى أذنى ترن كلمات أبى: «احترمت نفسى حين خيَّرتها بين السهل والصعب، فاختارت الصعب».
نقلا عن المصرى اليوم