دولا اندراوس
منتشياً بأحلام الزعامة، ومختالاً بالتأييد الشعبي غير المسبوق الذي حظى به على مستوى العالم العربي بلا منازع، سعى عبد الناصر إلى ترسيخ مكانة مصر كقائدة للعرب وكدولة تلعب دورا إقليميا رئيسيا فى الشرق الأوسط يكون هو زعيمها وبطلها وقائدها الأوحد. ومن هذا المنطلق حرص على إضعاف سلطات المؤسسات السياسية مع تركيزه على خلق أيديولوجية تلتف حولها الشعوب العربية ويستطيع بواسطتها تعزيز شعبيته والسيطرة على أدمغة المواطنين وكسب تعاطفهم وولائهم غير المشروط. وهكذا تم الترسيخ لفكرة القومية العربية لتكون هي الأيديولوجية السائدة في الوطن العربي آنذاك. وإمعانا في توثيق هذه الايديولوجية القومية فقد تم دمجها بالأيديولوجية الدينية لإضفاء صبغة القداسة عليها ولضمان الولاء التام لشعوب المنطقة تلك التي يلعب الدين دورا محوريا في تكوينها وثقافتها وطبيعة شخصيتها.
وكانت القضية الفلسطينية هي الرمز الذي استثمرت فيه هذه المفاهيم والذي تم العمل بجهد دءوب على حشد الشعوب العربية حوله. فأصبحت كلمة فلسطين -بمرور الوقت- مرادفاً للأرض والعرض، وأصبحت البوق الذي ينفخ فيه لاستنفار كافة مشاعر الانتماء الوطني والحمية الدينية.
من أبرز خسائر هذه اللعبة كانت ضياع الهوية المصرية في خضم هذا المشروع العروبى الناصرى الوهمي حيث تم التغافل عن كافة الانتماءات القومية والثقافية والحضارية وانحصر مفهوم الهوية لدى العامة في عاملين محددين لا يتعداهما هما اللغة والدين مما ترتب عليه اختزال تاريخ مصر بأكمله وحصره في الفترة التي اعقبت الاحتلال العربي وتم التنكر لتاريخ ممتد عبر آلاف السنين كانت فيه مصر الفرعونية من أعظم حضارات البحر الأبيض المتوسط وكان المصريون أول من أسسوا دولة قومية مدنية استمرت لأكثر من 5000 سنة.
من الخسائر الاخرى لهذا المشروع كانت إحداث انقسام في النسيج المجتمعي وعدم النظر إلى العروبة على انها العامل الذي يوحد المسيحيين والمسلمين في مواجهة المشروع الصهيوني ولكن تم إقصاء التواجد المسيحي عن هذه القضية باعتبار المسيحيين فصيلة لا تنتمي دينيا ولا عروبيا للفئة المنشغلة بتحرير الأقصى وبإقامة دولة إسلامية تمثلا بدولة الخلفاء الراشدين. وبالرغم من بروز بعض المفكرين المسيحيين الذين أغنوا الفكر العربي القومي وكانوا روادا للنهضة العربية إلا أن الأغلبية المسلمة ظلت وحدها في الواجهة وظلت العروبة وقفا على الإسلام.
أما أكبر الخسائر وأفدحها -في تقديري- والتي نجمت عن أسلمة القضية وجعلها رمزا قوميا، فكانت الفشل في إيجاد حل لهذه المشكلة المزمنة. فلا يوجد من يقدر أن ينكر أن القضية الفلسطينية هي أطول حركة تحرر في التاريخ العربي وأكثرها ألماً وتشابكاً ومرارة وتعقيداً، وهي جرح مأساوي طويل وغائر في جسد الوطن العربي يعكس فشل الفكر العربي التقليدي في معالجة مشكلات الواقع العربي. وهي قضية إنسانية وقومية أضر بها صبغها بصبغة دينية وصياغتها كأيقونة عروبية، وسهل على المنتفعين استخدامها لتحقيق مآربهم. فلم يكن الاهتمام بها يوماً اهتماما بالفلسطينيين أنفسهم ولكن بما تستطيع الاطراف المنخرطة في الصراع العربي الاسرائيلي تحقيقه من مغانم ومكاسب ولهذا لم تنته قضية فلسطين بل ازدادت تعقيداً مع مرور الزمن.
والآن..وفي زمن الكوارث الذي نعيشه أصبح التحزب للقضية الفلسطينية والإصرار على الانتفاض لحقوق الفلسطينيين وحدهم دون غيرهم أمر مثير للتعجب بعض الشئ. وخاصة بعدما جد على أقطار العالم العربي -بما فيها سوريا و العراق واليمن ولبنان وليبيا- من المآسي ما هو أحدث وأكثر فداحة ويستحق منا اهتماما جادا ومخلصاً إن كنا بالفعل نريد التخلص من إرث التحزب والتعصب الذي هو حصيلة سنوات طويلة من لعبة مزج الدين بالسياسة.