فاروق عطية
المماليك البرجية هم لواء من المماليك كانوا يقيمون في أبراج قلعة الجبل منذ جنّدهم السلطان قلاوون قبيل ما يقرب من مائه عام على وصولهم للحكم (687هـ/1382م)، يسمون أيضا بالمماليك الشركسية لأن مماليكها كانوا من الشركس سكان المرتفعات الجنوبية من بلاد القوجاق (شمال أرمينيا بين البحر الأسود وبحر قزوين وتعرف اليوم بجمهورية جورجيا في منطقة القوقاز)، وهم الفرع الثاني للدولة المملوكية بمصر، استمرت من عام 1381م حتي عام 1516م. بدأت فترة حكمهم بالسلطان الظاهر برقوق وانتهي حكمهم بالسلطان أشرف طومان باي الذي هزمه الأتراك في معركة الريدانية وأعدم وعلق علي باب زويلة (922هـ/1516م). تسببت تمردات الشام وكترة غارات العربان واعتدائهم على القرى المصرية وبالتالي تدمير البنية الزراعية في مصر والنزاعات بين الأمراء في إضعاف الدولة.
تحدَّث العيني في "عقد الجمان"، وابن تغري بردي في "النجوم الزاهرة" عن تربيةِ المماليك البرجية وإعدادِهم وعَلاقتِهم بالسُّلطان قلاوون، فقال العيني: إنَّه ربَّاهم كما يربَّى أولادُهم، وكانوا عنده كبنيه أو أعز من البنين، وإنَّه جلبَهم للجهادِ والغزو، وكان يحسنُ معاملتَهم ويشفق عليهم ويفخر بهم ويقول: إنَّه لم يهتم بالإعمار والأموال قدرَ اهتمامِه بهؤلاءِ المماليك ليكونوا حصونًا منيعةً له ولأولاده وللمسلمين، وكانت قوةُ السُّلطانِ أو الأميرِ في تلك الفترة تُقاس بكثرةِ مماليكه وإخلاصهم له، وكان يعتمدُ عليهم في تحقيقِ أهدافه وتوسيع نفوذِه ومنافسةِ غيره من أمراء المماليك. وقال ابن تغري بردي: إنَّ عدتهم وصلت اثني عشر ألفًا، وإنهم تولَّوا مناصبَ الأمراءِ ونواب السلطنة، ومنهم من تَسَلْطن بعد ذلك.
أتيحت الفرصةُ للجراكسةِ ليستعيدوا نفوذَهم عقبَ وفاةِ النَّاصرِ محمَّدٍ سنة (741 هـ / 1340م)، وتولي عددٍ من أبنائه وأحفادِه الصِّغار، ولكنَّهم وجدوا منافسةً قوية من المماليك الأتراك، وتأرجحتِ السُّلطةُ بين الفريقين، ترجح كفة كلٍّ منهما حينًا، حتَّى ظهرَ فيهم الأميرُ برقوق الذي نجحَ في الاستئثارِ بالحكم، وأسَّس دولةَ المماليك البرجية تحت إسم السلطان الظاهر برقوق. وقد اتَّسم عهدُ الجراكسة بكثرةِ الدَّسائسِ والمؤامرات والصِّراعات المستمرة، ولكنَّه من ناحيةٍ أخرى شهد جانبًا إيجابيًّا بتشجيعِ سلاطينهم للعلمِ والأدب وبناءِ المساجد والمدارس والمؤسَّساتِ الخيرية، وكان لهم دورٌ كبير في حمايةِ بلاد الشَّام من أطماعِ الملك التتري تيمور لنك، وألحقوا به ضربةً موجعة، كما وجَّهوا ضرباتٍ أخرى للقوى الصَّليبيةِ المجاورة لهم في جزر البحر المتوسط
حكم الدولة البرجية خمسة وعشرون سلطانا. تميز عصرهم بتولي عدد كبير من الأطفال للسلطنة وكان أصغرهم شهاب الدين أبو السعادات الذي كان عمره أقل من عامين. تُسمى الفترة التي جلس فيها الأطفال على العرش فترة حكم الأوصياء. كما تميز حكمهم أيضا بحدوث تمردات كثيرة في بلاد الشام التي ظلت عبئاً على مصر والدولة المملوكية، وكانت حصيلتها استنزاف مصر وإضعاف الدولة المملوكية وإيصالها لنهايتها بعدما استولى العثمانيون بالخيانات والمؤامرات على الشام عام 1516م وعلي مصر بعدها بعام.
لم يكن لسلاطين الدولة البرجية بوجهٍ عامٍ نفوذٌ مطلقٌ فكانوا يتعرضون للخلع، وكان أمراء المماليك يتمردون عليهم من وقت لآخر ويحاصرون القلعة ويهددون السلطان، وأحيانا كان يضطر السلطان للهرب كما حدث للسلطان أحمد بن إينال والسلطان الظاهر قانصوة الأشرفي. معظم السلاطين المعزولين كانوا أطفالاً يوصي أباؤهم السلاطين قبل وفاتهم لهم بالسلطنة، ويتولي الأتابك الوصاية ويصبح السلطان الطفل دمية في يده، ويعمل الوصي على تقوية مركزه بأخذ الأمراء في صفه حتي يستولي على كامل السلطة، ويظل يرتّب وينظّم أوضاعه حتى يتمكن من خلع السلطان الطفل كما حدث مع السلطان جمال الدين يوسف بن برسباي.
كان كل سلطان جديد يُقوّى مركزه ويُثبّت نفسه على العرش عن طريق الإغداق بالمنح والهدايا على رجال الدولة وخاصةً أنصاره، وكانت الإقطاعات ونفقة البيعة عبارة عن أموال تُصرف على رجال الجيش كلٌ حسب رتبته. كما كان تواجد الخليفة العباسي في القاهرة ضروريًا لأنه يعطي الشرعية للحكم، وبالرغم من ذلك كان الخليفة مجرد دمية يتحكم فيها السلطان الذي يستطيع إبقائه أو عزله وقتما يريد، فقد عزل السلطان الظاهر سيف الدين برقوق الخليفة المتوكل على الله وسجنه وعين الواثق بالله خليفة بدلا منه. كما كان للدولة المملوكية البرجية إنجازات ثقافية وعمرانية لا يمكن إغفالها، فلها ينتمي المؤرخان ابن أياس وابن تغري، كما يعتبر جامع المؤيد الذي أنشأه السلطان المؤيد أبو النصر شيخ المحمودي من أجمل وأهم آثار القاهرة الذي يرجع لعصر دولة المماليك البرجية.
كانت التحديات العسكرية التي واجهت دولة المماليك البرجية أقل كثيرا من التحديات العسكرية التي واجهت سابقتهم دولة المماليك البحرية الذين حاربو بنجاح الصليبيين والمغول في نفس الوقت، وظهر منهم قادة عظام مثل الظاهر بيبرس وسيف الدين قطز والمنصور قلاوون والأشرف خليل والناصر محمد بن قلاوون. وقد شهدت بداية حكم البرجيين تهديدات من المغول بقيادة تيمور لنك ولكن كانت الدولة لازالت قوية واستطاع الظاهر برقوق أن يواجه الموقف ويجعل تيمور لنك يخشى مواجهة الدولة المملوكية. لم يظهر من الخمسة والعشرون سلطانا برجيا سوى تسعة سلاطين امتازوا بالقوة على مدار الـ 130 عاما وهم: الظاهر سيف الدين برقوق، الناصر فرج، المؤيد شيخ، سيف الدين برسباي، سيف الدين جقمق،الأشرف إينال، الظاهر خشقدم، الأشرف قايتباي، وقانصوه الغوري.
الستة عشر سلطاناً الآخرين حكموا حوالى تسعة أعوام فقط وهم : الخليفة أبو العباس أحمد المستعين بالله، المظفر أحمد بن الشيخ، سيف الدين ططر، الصالح محمد، العزيز يوسف، المنصور عثمان، المؤيد أحمد، الظاهر بلباي، الظاهر تمربغا، أبو السعادات محمد، الظاهر قانصوه الأشرفي، العادل طومان باي والأشرف طومان باي.
كان السلطان الأشرف برسباى من السلاطين البرجية الأقوياء الذي غزا قبرص ودمّر مُدنها انتقاما للحملة الصليبية علي الإسكندرية التي قام بها بيير دي لوزينان ملك قبرص عام 1365م، ولكن مع تفشي تمردات ومؤامرات الأمراء حكام الشام وتنافسهم وغارات العربان علي القرى المصرية ضعفت الدولة البرجية، وتعرف تلك الفترة التي تبدأ بالسلطان الناصر محمد بن قايتباي من عام 1496م بفترة سىلاطين الضعف والفوضى. فقد اتسمت فترة حكم الناصر محمد بن قايتباى بالضعف والاضطراب وزيادة التمردات والنزاعات بين الأمراء حتي وصل لدرجة أن الظاهر قنصوة الأشرفي تآمر مع الأمراء على قتل ابن أخته الناصر محمد بن قايتباي وتولى السلطنة من بعده، بعدها تآمر عليه الأمراء وعزلوه وعينوا الأتابك الأشرف جان بلاط، ثم العادل طومان باي وقانصوه الغوري. كان هذا إبان بروز الدولة العثمانية في آسيا الصغري الذين هاجموا الشام التابعة لمصر واستطاعوا فتحها لقدراتهم العسكرية من جهة، وللخيانات والمؤامرات التي كانت تحدث هناك من جهة أخرى. وكانت الشام في فترة الدولة البرجية تمثل عبئاً على مصر بسبب مشاكلها وتمرداتها ومؤامراتها وضعفها في مواجهة القوى الخارجية.
عندما غزا العثمانيون الشام كالعادة خرج الجيش المصري لحماية الشام كما كان يحميها دائما من غزوات المغول والصليبيين على مر العصور الوسطى، ولكن هذه المرة فشل قانصوه الغوري في رد العثمانيون، واستنزف الجيش المصري في معركة مرج دابق دفاعا عن الشام ومات من الصدمة وقت المعركة، وتولى من بعده طومان باي الحكم وفعل كل ما يستطيع كي يحافظ على مصر التي تبدد جيشها في الشام، وجمع ما يستطيع من بقايا الجيش وحارب بجيش صغير للغاية ليمنع دخول الجيوش العثمانية مصر لكنه تعرض للخيانة بعدما غدر به شيخ من العربان ودلّ العثمانيين على مكانه، وهزموه في موقعة الريدانية وقبضوا عليه وأعدموه وعلقوا جثته على باب زويلة، وبذلك انتهت الدولة المملوكية البرجية والدولة المملوكية بصفة عامّة.