أعلم يا سيدتى أن مشكلتى حساسة وشائكة، وأن البوح بمخاوفى يشعرنى بالهزيمة الإنسانية والاجتماعية.. ولست مضطرا للقول بأننى رجل شرقى كان من الصعب علىّ أن ألجأ لمشورة امرأة حتى لو كانت في خبرتك.. لكن مشكلتى تكررت بين أسر مسيحية كثيرة أعرفها، لدرجة أن شبح تكرارها يطاردنا جميعا.
أنا «أب مسيحى» لثلاث بنات، الأولى كانت في أولى جامعة وما كدنا نفرح بنجاحها حتى هربت وتركت لنا رسالة قصيرة تفيد بأنها أحبت شابا من غير دينها ولجأت لأسرته ليتزوجا بعيدا عن بلدتنا التي تعتبر «مدينة» في قلب صعيد مصر.
بالطبع كان أول رد فعل لى ولأهلى هو إبلاغ الشرطة، حتى لا نعطى الفرصة للمتطرفين لإشعال الفتنة الطائفية، وربما تعلمين حضرتك أن جلسات «النصح والإرشاد»، التي كانت شرطا أساسيا لإشهار إسلام أي مسيحى يغير ديانته، وهو الشرط الذي وضعته وزارة الداخلية، وكان يتم خلالها جلسة مغلقة بين كاهن يمثل الكنيسة وطالب تغيير ديانته لمعرفة أسبابه ومدى اقتناعه بديانته الجديدة، هذه الجلسات توقفت دون أن ندرى السبب.
وبكل أسف لم يشعر أحد بعذابنا، وتم إغلاق الملف حتى لا تحدث فتنة في بلدتنا!.
قد يكون البعض قد سمع وقرأ كثيرا عمن بدلوا دينهم لأسباب شخصية أو مادية أو للحصول على الطلاق، ثم عادوا يطالبون القضاء بإثبات ديانتهم الأصلية في الرقم القومى.. لكن في حالة هروب «بنت قاصر» من عائلتها يكون الوضع مختلفا تماما.
أنا لا أتحدث بعنصرية أو عداء لأى دين سماوى، أنا أحدث قلوب من يقرأون عن إحساسهم عندما تنسلخ بنت من عائلتها، وتهرب بعيدا ولا نملك حتى أن نراها أو نطمئن عليها.. أتحدث عن «عرضى وشرفى» عن كرامتى بين أهلى وأبناء بلدتى.. فحتى لو حدث هذا بين اثنين من نفس الديانة لأصبح مجلبة للعار ويسمى «فضيحة».
نعم ابنتى هي التي أخطأت، لن أعلق خطأها على شماعة الشاب وأقول إنه غرر بها، أو ربما أخطأنا نحن في تربيتها.. لكن السؤال الذي أطرحه عليك: كيف تقبل كل أجهزة الدولة بتغيير بنت قاصر لديانتها ؟.. وكما أعلم فإن الزواج في الإسلام يشترط وجود ولى أمرها، فكيف تزوجت بدون وجودى وهى «طفلة هاربة» من أهلها ؟.
هل زوّرت ابنتى عمرها في أوراق إشهار إسلامها وزواجها مثلا ؟.. لا أعتقد.. لأن الحالة تكررت في أسر متعددة، وشكل البنت يبين سنها.. هل تعلمين أن بعض الأسر اختارت الهرب من مصر والهجرة فرارا ببناتهن وأننى بالفعل تقدمت بطلب الهجرة إلى عدة سفارات رغم أن سنى تجاوز إمكانية ترك الوطن ومهنتى ليست مطلوبة في بعض الدول الأوروبية.
كل ما أطلبه منك يا سيدتى أن تشعرى بأنينى وصرختى المكتومة، أن تلمسي بقلبك دموع أمها ليل نهار، أن تضعى نفسك- كأم- مكاننا، وتوصلين صوتنا إلى السادة المسؤولين.. أريد أجوبة على أسئلتى ربما أشعر بالطمأنينة والأمان في وطنى.. ربما أبيت ليلتى لا أخاف أن أغلق عيونى فتفر من حضنى ابنة أخرى.
أنا مع وطنى في حربه ضد الإرهاب، لو كان ما أحدثك عنه عملا إرهابيا لما اشتكيت أو فكرت في الهجرة.. لكنه حادث اجتماعى يمس عقيدتنا وسمعتنا وشرفنا.
كلى ثقة بأن للألم نهاية وأن العذاب المنقوش على كفى سوف ألاقيه.. راضيا بما يفعله الرب.
يا سيدى:
لقد بكيت ضياع ابنتك ربما أكثر من أمها، وخطفت صرختك إحساسى الشخصى بالأمان، رغم أننى لم أواجه مشكلة مماثلة، لم يفلح كبرياؤك كرجل «صعيدى» في حجب «حالة الذعر» التي تعانيها.. أنا أعتذر لك عن حالة التخبط حتى في القرارات الإدارية المنظمة للزواج أو تغيير الديانة، رغم أننى لم أشارك فيها.
بداية لقد طالبت كثيرا، وها أنا ذا أطالب مجددا برفع سن تغيير الديانة ليكون «سن الرشد» أي بعد أن يبلغ الإنسان 21 عاما أيا كان نوعه أو دينه.. كما يحدث في كل دول العالم.. وكلى ثقة أنك لو كنت تعيش في أوروبا وتحولت ابنتك «بعد سن الرشد» إلى الإسلام أو اليهودية لم تكن لتشعر بالعار والفضيحة.. لأنه سلوك طبيعى في الدول المتقدمة.
هذا لا يعنى أننا متخلفين لتمسكنا بديننا أو عاداتنا وتقاليدنا، أو بالأدق لسنا متخلفين لتمسكنا بـ«لحمنا- أى بناتنا».. أنا أتصور أنه في حالة غياب ولى الأمر يتم الزواج بمن ينوب عنه من الأجهزة الرسمية.. وهذا تخيلى وليس لدى معلومة مؤكدة.
أتصور أيضا أن معظم البنات قد يتعرضن لضغط عاطفى وهن غير ناضجات عاطفيا ولا جسديا ولا عقليا للتمييز بين الخطأ والصواب، وقد تتورط إحداهن في علاقة جسدية تضطر فيها الأجهزة لإتمام الزواج حتى لا تعود إلى أهلها «منزوعة البكارة» فتقتل قصاصا للشرف خصوصا في الصعيد الذي تعد فيه جرائم «الشرف» هي الثانية بعد جرائم «الثأر».
أعود لأوجه صوتى للمسؤولين- دون ملل- أن القضاء على هذه المشكلة الخطيرة لن يكون إلا برفع سن تغيير الديانة، وعودة جلسات «النصح والإرشاد» لأنها من حق أهل الفتاة.. بل ومن حق الفتاة نفسها أن تستمع لمن يفهم دينها ومن يمنحها قدرا من الوعى الذي غاب عنها.
للأسف الشديد أنا لا أقتنع أن طفلة دون سن الثامنة عشرة تكون قد اطلعت على الإسلام ودرسته وتعمقت فيه حتى آمنت به.. كلها أزمات عاطفية ترتبط بفترة المراهقة ثم تفجر في وجوهنا ألغام الفتنة الطائفية.. وكما قلت فالعديد ممن بدلوا دينهم عادوا إليه لأنهم لم يقرأوا الإسلام ولا تمعنوا فيه بل بدلوا دينهم لأسباب مادية ودنيوية.
انا أضم صوتى لصوتك ربما تصل صرختنا للسادة المسؤولين: الإسلام لن يكسب والمسيحية لن تخسر بهروب طفلة من ذويها لتغير دينها من أجل قصة حب.. لكن المجتمع كله يخسر من أمنه وسلامه بالاستسلام لنزوات أطفال دون سن الرشد، وتنفيذ رغباتهم لدرجة تفكير البعض في الهرب من الوطن ليصون عرضه.. وهذا وضع كارثى لأسر لم تفر من وجه التنظيمات الإرهابية بل ظلت جذورها مغروسة في أرض الوطن ولم تكفر به يوما!.