محمود العلايلي
علت خلال الأسابيع الماضية نزعة عروبية منطلقة من منصات الرياضة، استنادا إلى مفهوم «الأمة العربية» المرتكز على وحدة اللغة والدين السائد، وحقيقة الأمر أن هذه محددات لا تكفى لكى تكون ما يطلق عليه تعبير «أمة» فى العلوم السياسية، لأن مفهوم«الأمة» يفترض أيضا وحدة الثقافة والتاريخ المشترك، وهو ما لا يتوافر غالبا بين دول «جامعة الدول العربية» حيث تتباين الثقافات وتختلف، ليس بين الدول البعيدة جغرافيا مثل مصر وعمان مثلا، أو مصر والمغرب فى مثال آخر، ولكن حتى بين دول الجوار المباشر، فليس هناك تقارب فى الثقافات بين مصر وليبيا أو مصر والسودان فى مثال آخر، بينما تتقارب بعض الثقافات إلى حد ما مثل الحال فى بعض دول الخليج، ومثل دول الشام فى بعض الأمور، وعلى الجانب التاريخى لم يجمع بين دول «جامعة الدول العربية» تواريخ مشتركة إلا فى جنسية المحتل، سواء كانت الإمبراطورية الفارسية أو الرومانية، ثم تناوب عليها الاحتلال العربى على مدى العصور، سواء كان أمويا أو عباسيا أو فاطميا، ثم تبدل على هذه الدول الجراكسة والمماليك ثم الأتراك العثمانيون، الذين اخترقهم الإنجليز والفرنسيون الذين نسقوا المنطقة بالحدود السياسية الحالية.
أما الاستناد إلى مسألة وحدة اللغة، فقد كتبت سابقا موضحا الكذبة الكبرى بأن اللغة العربية هى لغتنا الأم، لأن اللغة الأم هى ما يتكلمها ويفهمها ويستطيع التعبير عن نفسه بها طفل ما دون الخامسة، وهو ما لا يتوافر فى أى دولة عربية، حيث لدى كل منهم لهجته المحلية بمفردات أغلبها عربى ولكن بتركيبة لغوية ونطق خاص، بينما تعد اللغة العربية الفصيحة التى نتعلمها فى فصول اللغة العربية بالمدارس، مثل أى لغة أجنبية أخرى تحتاج دومًا إلى ترجمة وشرح لمعانى الكلمات، وصارت اللغة التى يتقنها المتعلمون العرب لغة الأدب والعلوم الإنسانية، أو التى ينقلونها من الأعمال الأدبية والشعرية والتاريخية، ولم تكن ولن تكون لغة المواطن فى حياته اليومية.
والحقيقة أن مرجعية وحدة اللغة والدين كمحدد لتكوين كيان سياسى حقيقى- موضوع مثير للشفقة والسخرية، حيث يتكون الاتحاد الأوروبى من 28 دولة، تتحدث بـ24 لغة، وبمرجعيات تاريخية شديدة التباين، بل بعد حروب ضارية على خلفيات سياسية ودينية دموية، ولكنهم اتفقوا أخيرا على وحدة الهدف والمصلحة المشتركة، وقد قام الاتحاد الأوروبى على أسس ديمقراطية من مكونات ديمقراطية، وليس على أسس من رومانسيات الأخوة المتخيلة والحنين الماضوى، ودفء دمج اللغة بالدين فى كذبة كبرى، ليتكون على أثرها كيان سياسى مراسمى، وتشكيل تيارعروبى ساذج على أساس غير مفهوم، إلا من خيالات السلطة ووهم الزعامة، واستمراء ممارسة فنون الصياح وآليات الرفض والشجب بسبب وبدون سبب، دون أى أطروحات لمستقبل مشترك لهذه البلدان، ولا حتى لمواطنيهم على أقل التقديرات، فى منطقة يدعون فيها وحدة الأرض والمصير، بينما ينتقل فيها 90% من مواطنى هذه الدول بين دولة وأخرى مكبلين بكل أنواع القيود الأمنية والسياسية.
إن ما سبق لا ينفى انتماء مصر الإقليمى للدول المتحدثة بالعربية، بقدر محاولة عدم اقتصار انتمائها السياسى والحضارى على العروبة، بل بالاتساع على إقليم البحر المتوسط وجنوب أوروبا، وتعظيم انتمائها لإفريقيا الناشئة وآسيا الواعدة كبعد سياسى واقتصادى فى منتهى الأهمية، بدلًا من الدفع بنا قسريًا لهذا التيار العروبى الشوفينى، المستحوذ على خيالات الشعراء وأبطال المعارك الصوتية، والذى لم نجن منه إلا تضخم الذات وكراهية الآخرين، وندعو للكف عن تسول هوية لدولة بحجم مصر الحضارى لننتهى من نعرات الفخر القبلى، ونجتاز أوهام التعالى باللغة والدين، مع أن الأولى وسيلة للتفاهم بين البشر، والثانى وسيلة لتواصل البشر مع الله.
نقلا عن المصرى اليوم