المقال التالي لا تحليل سياسياً أو حتى رأي فيه، وكل ما ورد وقائع تظهر كيف تتغير المجتمعات، والوقائع أدت إلى استنتاجي الشخصي الذي كان الافتتاحية.
أعتقد بوجود خطأ تاريخي حين يُقال أن الثورات الإسلامية في القرن العشرين بدأت بالخومينية، فالوقائع تقول انها بدأت بانقلاب الوزير(آنذاك) عبد الناصرعلى الرئيس محمد نجيب. نجيب الذي طمأن فئات الشعب المصري كافة بحيادية الثورة تجاه كل عناصر المجتمع بمن فيهم الاجانب المتمصرين، كما قال حرفيا: "أما الاجانب في مصر.. استغفر الله.. الاخوة الاجانب فهم جزء من البلد ده".
وردت هذه العبارة في كلمة مقتضبة في حفل بالنادي السوري* في الاسكندرية على شرف الرئيس نجيب، وكان أعضاؤه نخبة المجتمع السكندري من المصريين والمتمصرين سواء كانوا أوروبيين أو شوّام (سوريون ولبنانيون كما كان المجتمع المصري يطلق عليهم)
كان الرئيس محمد نجيب يدرك كوزموبوليتية مصر وخصوصيتها، ويعلم أن الجاليات الاجنبية تمصرت وصارت مؤسساتها أعمدة اقتصاد مصر وإعلامها وثقافتها، وكان يبث الطمأنية دائما بينها كلما سنحت الفرصة له، وفي هذا الاطار زار اليهود القرائين في معبدهم كبرهان ملموس على أنهم جزء من نسيج الشعب المصري.
بدأت تختفي التعددية الثقافية للمجتمع المصري بعد اعتقال الرئيس محمد نجيب وتولي عبد الناصر، الذي كان يعلم تماماً تركيبة العقلية المصرية العلمانية آنذاك ويعلم كيفية التآمر على هذه العقلية، فاستخدم فبركة اتصال الرئيس محمد نجيب بالاخوان ليثير فورة غضب حوله، بينما السبب الحقيقي كان مطالبة محمد نجيب بعودة الجيش إلى الثكنات وترك الحياة المدنية للمدنيين.
تجلت مظاهر الاختفاء العلني لتعددية المجتمع المصري في هجرة أصحاب رؤوس الاموال اليهود والمسيحيين في الجاليات المتمصرة، وحتى المسلمين المصريين المتنورين الذين كانوا على علم بخلفيات عبد الناصر ونواياه. أمّا الاختفاء الذي لم يشاهده العالم أو الاعلام فكان هجرة أفراد الجاليات العاديين أنفسهم يوماً بعد يوم، بمن فيهم الشوّام، الذين أخذ الخناق يضيق على ثقافتهم وأرزاقهم، وأحد الذين عبّروا عن ذلك الكاتب أمين معلوف في كتاب "غرق الحضارات" عندما ذكر أن عائلته اللبنانية المتمصرة تركت مصر بسبب عبد الناصر وشعاراته وتأميماته.
فرّغت هذه الهجرة مصر من قوتها الناعمة أيضاً، فقد هاجر فنانون كانوا في بدايات حياتهم الفنية مثل داليدا وديميس روسس وجورج موستاكي، وبدأت أسماء المتمصرين تختفي تدريجياً في تيتر أي فيلم وفي الاعمال الفنية بشكل عام، والممثلون الذين ظلوا لم يكن يُقدم لهم سوى دور الجاسوس أو البارمان أو الخواجه الذي لا يُحسن العربية، ثم لحقت المضايقات حتى الفنانيّن الكبيريّن صباح وفريد الاطرش اللذين شعرا بأن لا مكان لهما في مصر، ناهيك عن أسماء فنية وأدبية كثيرة غير مشهورة يستحيل ذكرها كلها في مقال.
ذكر لي،على سبيل المثال، البير بديوي من الجالية اللبنانية المتمصرة وما ذكره لي قال كثيرون ما يشبهه. كان بديوي راقصاً استعراضياً في فرقة شعبية معروفة، وفي منتصف الخمسينات من القرن الماضي تراجع من الصف الآول إلى الثاني في استعراضات الفرقة، وعندما تراجع إلى الصف الرابع في منتصف الستينات قرر العودة إلى لبنان، لأنه شعر بأنه شخص غير مرغوب فيه.
النظام الخاص
أسس عبد الناصر قبل انقلاب يوليو "تنظيم الضباط الاحرار" على غرار "النظام الخاص" للإخوان المسلمين، ولم يكن فيه ضابط مسيحي مصري واحد، بل كان على الأقل ثلاثة من أعضائه ينتمون للاخوان المسلمين، علاوة على عبد الناصر شخصياً، فقد كان إخوانيا من "النظام الخاص" أقسم على القرآن والسيف كما ورد في عدة كتب، وعدم اختياره لضابط مسيحي واحد يعكس ولاءه الشخصي الذي يعكس رؤيته لمسيحيي مصر، الذين وصل بعضهم في دولة محمد على وابنائه إلى منصب رئيس وزراء، وشكلوا نصف ثورة 1919 التي وقف فيها سعد زغلول ضد الإنكليز. الثقة والمواطنة.
حسب شهادات زوجة عبد الناصر وخالد محيي الدين وأنور السادات، لم يكن أحد خارج تنظيم "الضباط الاحرار" يعلم بموعد انقلاب يوليو المُعد على النظام الملكي سوى حسن الهضيبي مرشد عام الاخوان المسلمين، الذي أبلغه عبد الناصر نفسه بما سيحدث، ويستحيل في السياسة والدين أن يكون الولاء لغير المؤمنين أو الأعضاء الذين يثقون في بعضهم بعضاً ثقة تامة، خصوصاً بشأن إنقلاب عسكري قد تكون نتيجة فشله الاعدام. وفي خطاب 5 سبتمبر/أيلول سنة 1981 قال أنور السادات حرفياً "إحنا دعينا الاخوان يشتركوا معانا .. في ثورتنا.. فجبنوا ورفضوا".
كان مسيحيو مصر قبل عبد الناصر في وزرات سيادية، ثم أصبحوا بعد ذلك في وزارت غير مؤثرة ولا قيمة لها في القرار السياسي، الذي كان على كل حال للزعيم "المُلهم"، وظلت بعض الشخصيات غير المؤثرة في وزاراته مثل كمال رمزي ستينو موجودة كديكور، إلى أن اختفى العنصر المسيحي تماما في الوزارات بعد ذلك. كما لم يُسلم عبد الناصر أي قيادة عُليا لمسيحي في الجيش المصري أو في المصالح الحكومية أو الشركات التي أممها وتسلمها ضباط مسلمين.
الشرع والقانون
بدأت أولى مظاهر الدولة الدينية في مصر التي تعمّقت بعد ذلك، بعدما استطاع الإخوان المسلمون الاعضاء في مجلس قيادة الثورة اقناع الاخرين بعدم جدوي وجود الأحزاب السياسية، وكونوا أغلبية تؤمن بقناعة ضرورة حلها، بدعوي أنها غير قادرة علي تحقيق أهداف الثورة الستة، ما جعل مجلس قيادة الثورة بعد أربعة أشهر من مغادرة الملك فاروق وتنازله عن العرش لإبنه، يصدر قانون حل الأحزاب السياسية وتم إلغاء كافة الأحزاب ما عدا الاخوان المسلمين باعتبارهم حزب دعوة وليس حزباً سياسياً.
بعد ذلك صدر قانون تحريم القمار ومنعه، وإغلاق كل المحافل الماسونية ونوادي الروتاري والمحافل البهائية، وإلغاء تراخيص العمل الممنوحة لبائعات الهوى واغلاق أماكنهن، ما يعني أن دولة عبد الناصر أصبحت قيّمة على أحكام الدين وليست الجهة التي تطبق أو تحاسب على انتهاك القانون.
كما تم في عهده مصادرة الرقابة لكتب الباحثة أبكار السقاف، الأم الروحية لكل المفكرين المسلمين الذين يتناولون مسألة لا معقوليات كتب التراث الديني، واتُهمت أبكار السقاف بالكفر، وصدر حكم بتحديد إقامتها في بيتها، وهذا الحكم يستحيل أن تصدره جهة غير سيادية.
ذكر عبد الناصر في بدايات حكمه في خطاب علني رفضه فرض الحجاب أو الطرحة، التي طلب مرشد الاخوان المسلمين منه فرضها على نساء مصر، لأنه يعلم تماماً استحالة تطبيق أمر لا يطبقه المرشد على ابنته بسبب الاجواء العامة في البلد آنذاك، لكن بدأت في عهده مظاهر بناء الدولة الدينية مثل تبني الحكومة ترجمة القرآن إلى لغات العالم المهمة، وقد سبق عبد الناصر الملك خالد بهذه الترجمة بثلاثة عقود، وإنشاء "إذاعة القرآن الكريم الحكومية" التي تذيعه على مدار الساعة، وزاد عدد المساجد في مصر من أحد عشرة ألف مسجداً حكومياً قبل الثورة إلى واحد وعشرين ألف مسجداً سنة 1970 وهي السنة التي مات فيها، والفارق بين العددين يساوي عدد المساجد التي بُنيت في مصر تقريباً منذ غزو عمرو بن العاص حتى السنة نفسها، كما جعل مادة "التربية الدينية الاسلامية" إجبارية في المدارس العادية يتوقف عليها نجاح أو رسوب الطالب المسلم كباقي المواد لأول مرة في تاريخ مصر والدول العربية.
جامعة دينية
استهل قرار تأميم شركة قناة السويس بالقول "باسم الامة.. قرار رئيس الجمهورية". مصر ليست أمة بل شعب، ما يعني أنه يؤمن أن مصر جمهورية تقع داخل أمة، ومعروف تماماً ماذا تعني كلمة "أمة". وعندما بدأ العدوان الثلاثي سنة 1956 بسبب تأميم شركة قماة السويس، ذهب عبد الناصر إلى الازهر وألقى خطبة لحشد الناس خلفه ولم يذهب إلى مجلس الشعب. واجه اعتداء عسكري محض بحشد الناس دينياً.
وبعدها طوّر عبد الناصر ما كان يُطلق عليه منذ تأسيسه سنة 972 الجامع الأزهر، وحوله لجامعة تدرّس فيها العلوم الطبيعية والطبية بمنظور معلومات القرآن، كما حدث تماماً أيام محاكم التفتيش التي رفضت وقتها "هرطقة" دوران الارض حول الشمس، وبنى آلاف المعاهد الأزهرية والدينية في مصر، وأنشأ مدينة البعوث الإسلامية وضمّت الطلاب المسلمين من مصر والدول الأخرى، الذين يتعلمون ويقيمون في القاهرة إقامة كاملة مجانية، وأرسل بعثات الأزهر إلى الدول الاسلامية، وتم افتتاح معاهد أزهرية للفتيات فقط رغم أن التعليم الجامعي كان مختلطاً في مصر منذ نشأته، وأوعز بتنظيم مسابقات تحفيظ القرآن على مستوى الجمهورية والعالم العربي والإسلامي، وكان يوزع بنفسه الجوائز على حفظة القرآن، وليس شيخ جامعة الازهر، وأسس موسوعة جمال عبد الناصر للفقه الإسلامي، التي ضمت كل فقه الدين وأحكامه في عشرات المجلدات وتم توزيعها مجاناً في العالم.
في سنة 1967 وعقب هزيمة يونيو بدأ أئمة مساجد مصر تلقين المسلمين أن الهزيمة حدثت بسبب قلة ايمانهم واهمالهم شأن دينهم، وأن الهزيمة أمر إلهي في اللوح المحفوظ إذ لن تقوم الساعة حتى يدخل اليهود بيت المقدس، وكان تواطؤ السلطان واضحاً مع المنابر التي يتلقى شيوخها رواتبهم الشهرية من وزارة الاوقاف، لأن الهزيمة كانت بسبب عشوائيته هو شخصياً وعدم الاخذ بتقارير قيادات جيشه الذين أكدوا له عدم صحة المعلومات الواردة من الجبهة السورية عن حشود إسرائيلية، ومن ثمة لا داعي في التمادي في الحشد العسكري الذي يصّر عليه، بينما الجيش المصري يعاني من سوء التسليح وتراجع معداته تقنياً بعدما أُنهك في حرب اليمن، وكان غير قادر على خوض حرب أعدت إسرائيل جيشها لها.
اعتقد عبد الناصر ان "المظاهرة العسكرية"، وهو المصطلح الذي ردده وزير حربيته آنذاك المشير عبد الحكيم عامر ليطمئن قيادات الجيش التي كانت مندهشة من قرار عبد الرئيس، ضد إسرائيل ستعيد له هيبته بعد هزيمته في اليمن، ولم يقدّر أبدا أن الوقت لم يعد سنة 1956 وأن الدول العربية الفاعلة تتمنى هزيمته فعلا بسبب تصريحاته "حتنف دقن ملك السعودية شعرة شعرة" و"حسين إبن زين" ومحاولات نشر الثورة فيها، وأن أميركا هذه المرة لن تغفر له شعاراته غير الديبلوماسية التي كان يقولها امام الميكروفونات ومنها على سبيل المثال: "طظ في اميركا" و"ألي مش عاجبه يشرب من البحر الاحمر يشرب من البحر المتوسط" و"حنهزم إسرائيل ومن هم وراء إسرائيل".
الشريعة هي الدستور
مات عبد الناصر موتاً سريرياً سياسياً سنة 1967، وبعد وفاته سنة 1970 جاء الرئيس أنور السادات بعده، وافتتح خطاباته السياسية "باسم الله"، وطلب فى بدايه حكمه ملفات "الاخوان المسلمون" الذين أطلقوا الرصاص على عبد الناصر في منشية الاسكندرية ولم يصيبوه، وقرر الإفراج عنهم وألمح إلى الاجهزة الامنية أنه لا مانع في عودة الهاربين منهم إلى مصر مرة ثانية. كانت صفقة سياسية بدون مقابل منهم أو تعهّد بموالاته على الأقل، ومن طرف واحد فرض هذه الصفقة على أجهزة الدولة هو الرئيس السادات، رغم تحذير جميع الأجهزه الأمنية بخطورة الإفراج عن قادتهم وعودة الهاربين منهم، فقد كانوا جميعا مصنفين "خطر جدا".
في سنة 1971 صدرت طبعة جديدة لدستور مصر العلماني، بدلاً من دستور 1955 الذي لم يُطبق أبداً، غيّرته تماماً إذ نصت مادته الثانية على أن الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية مصدر للتشريع. ما يعني أن الرئيس السادات نقل مصر رسمياً من دولة مدنية إلى دولة دينية.
هذه النقلة التي فعلها الرئيس السادات، لم تُقابل بالامتنان ممن أعادهم إلى الحياة السياسية ويطلقون على أنفسهم حماة الاسلام، لأن اللعبة هي كرسي الحكم والاسلام مجرد شعار، فقد جنّد يحيى هاشم وهو وكيل نيابة من سوهاج سنة 1972 جماعة التكفير والهجرة ووضع خطة للقيام بتفجيرات وهجوم مسلح فى القاهرة واغتيال أنور السادات حين تحين الفرصة، وأوهم أتباعة أنه سوف يهاجر كما هاجر الرسول إلى يثرب، ثم سيدخل مكة وكان يعني القاهرة، لكن أجهزه الأمن المصرية حاصرته فى منطقة جبلية بين محافظتى قنا وسوهاج أثناء إجراء تدريب عسكرى لمجموعته، وقُتل اثناء تبادل إطلاق النار.
وجاء من بعده شكرى مصطفى الذي كان في سجون عبد الناصر لأنه من الاخوان المسلمين، وأعلن نفسه أميراً للجماعة نفسها، وخطط لإقامه دولة إسلامية بعد تجهيز جهادييه، لتُطهر مصر من الفساد والكفر، وانتشر أتباعه فى عدة محافظات خصوصاً فى محافظتي المنيا وأسيوط، وتدربوا على الأعمال العسكرية فى منطقة جبلية، لكن نهاية شكري مصطفى كان شنقاً بعد اغتيال جماعته للشيخ الذهبي.
رفع الرئيس السادات، رغم خطورة هذه التحركات على الدولة وعليه شخصياً، شعار "دولة العلم والإيمان"، وأطلق على نفسة "الرئيس المؤمن" وبدأ الارسال التلفزيوني الحكومي يُقطع لبث الآذان حتى في مبارايات كرة القدم على الهواء، ورغم ذلك حدثت مذبحة الكلية الفنية العسكرية، وكُشفت خطة صالح سرية للإستيلاء على أسلحة ثقيلة من الجيش بتخدير أفرادها واغتيال السادات وكبار رجال الدوله الذين كانوا مجتمعين فى وقت واحد فى مبنى اللجنه المركزية بكورنيش النيل. وكان ردة فعل الرئيس هي ما أطلق عليه "حركة الإحياء الإسلامى"، فقد كانت الدولة تريد حصار التيار الشيوعي وجذب التيار الديني وضمه إلى صفوفها عقب هزيمة 5 يونيو 1967، رغم أن السادات كان يعلن في خطاباته أن الجيش المصري متأخر عن جيش إسرائيل بعشرين خطوة، ويطالب الاتحاد السوفياتي الشيوعي بتسليح الجيش بما يناسب المواجهة مع عدو متفوق عسكرياً.
اقترح المحافظ محمد حسن عثمان والمهندس عثمان أحمد عثمان وآخرون ، بناء على رؤية الرئيس، إنشاء "تنظيم الجماعات الإسلامية" ليقفوا ضد التيارات اليسارية فى الجامعات المصرية، ويسيطروا على اتحادات الطلبة بالفوز فى الإنتخابات على التيارات الناصرية واليسارية، وتبرعوا بالمال للجماعات الإسلامية المقترحة وأنشئت فعلاً، لكنها تحولت عن أهدافها إلى الوقوف ضد المسيحيين وبث الفتنة الطائفية، وراحوا ينتقدون سياسة الحكومة بعد انتصار سنة 1973 واعادة فتح قناة السويس، واستعملوا ضد سياسية الانفتاح الاقتصادي كلمات دينية مثل الربا والفساد والحرام لنقد الميل للإستهلاك والإحتكار والسوق السوداء والمناخ الذى أفرز اللصوص والمرتشيين وتجار المخدرات، وكان السبب فى رأيهم هو الإبتعاد عن شرع الله وطريقه.
تلاشى في حقبة الرئيس السادات تماماً الوجود المسيحي الخجول في الوزرات، حتى بطرس غالي مهندس كامب ديفيد وصاحب ثورة الأرشفة العلمية في وزارة الخارجية لم يكن وزيرا، وعلى مستوى الإدرات قال الرئيس أنور السادات في اجتماع مع المحافظين: "انا مش عايز يوصل قبطي واحد إلى درجة مدير"، وعندما انتبه لوجود فؤاد عزيز غالي قائد الجيش الميداني الثاني في حرب أكتوبر بين المحافظين لأنه أصبح محافظاً، ضحك السادات وقال له: "معلشي يا فؤاد دي سياسة زي ما انت عارف"، فرد غالي وقال: "مفهوم ياريس".
وبدلا من استفادة مصر من نصرها والسلام مع إسرائيل والانفتاح على دول العالم، عانى البلد من زيادة التوترات الطائفية، واتُهم السادات بأنه خرج من "ساحة الجهاد"، وبدا واضحاً أن نهاية مأساوية تنتظر الرئيس الذي أطلقوا عليه الطاغوت، وانتهت الحقبة الساداتية باغتياله من الإسلاميين.
خيال المآته
رغم أن حسني مبارك نجا باعجوبة من رصاص وقنابل المتشددين في المنصة، استمر نظامه في توظيف الدين، من أجل ترسيخ قبول سلطة الدولة وقبوله هو شخصياً رئيساً، ما أسهم في أسلمة المجال العام تماماً، وأدى إلى خلق بيئة سياسية/دينية، خضع فيها الأقباط والمفكرون العلمانيون وذوو الآراء الدينية المخالفة لإجماع الأغلبية، للاضطهاد المنظم ومصادرة الكتب احياناً بتواطؤ الدولة، التي كانت من مفارقاتها استُخدام مصطلح "الأصولية الإسلامية" كخيال مآته يخيف الناس من أي تطور ديموقراطي سريع يأتي بالاسلاميين للحكم، وللتصدي لدعوات الإصلاح والقضاء على الليبراليين، والمنادين بانشاء دولة المؤسسات وليس الفرد.
كانت خطورة تولي الإسلاميين المتزمتين السلطة هي مبرر استمرار إقصاء الدولة لغير المقربين عن العملية السياسية، وتجاهل أشكال المعارضة العلمانية المشروعة.
ورغم التخويف من خطورة "خيال المآته" تجلت الدولة الدينية في عدم خضوع جامعة الازهر لرؤية وخطط وزارة التربية والتعليم التربوية في مصر، وخضوع الوزارة لرؤية الازهر.
في عهد حسني مبارك جرت لعبة سياسية غريبة، ساعدت ظروف دولية وعربية على استفحالها، هي قبول الطرفين؛ الرئيس والاخوان، توظيف الاخوان المسلمين كخصم رسمي سياسي يدخل إلى مجلس الشعب، وقبول كل ما يقوله الاخوان على حسني مبارك شرط عدم المساس به كرئيس أو الاعتراض في ما بعد على ابنه كوريث، ولم يبال حسني مبارك بمحاولات اغتياله من الخصم داخل مصر وخارجها، بل أدار ظهره لدول أفريقيا لأن إحدى محاولات إغتياله تمت في أديس أبابا سنة 1995 على يد متشددين، ولم يكن لأفريقيا أي دور فيها.
لم يطلب مرشد الاخوان المسلمين من حسني مبارك فرض الحجاب أو الطرحة على نساء مصر كما حدث في وقت عبد الناصر، لأنه لم يكن بحاجة لمثل ذلك المطلب، فقد فُرض الحجاب العقلي على ثقافة مصر وشخصيتها.
انا مسلم بس
ركب قاتلو السادات عربة عسكرية ليغتالوه في العرض العسكري، ولم يدر في خلد حسني مبارك أن يركب المتأسلمون ثورة 2011 الشعبية للإطاحة به، وجاء رئيس من الاخوان المسلمين "خيال مآته/حليف ثورة 23 يوليو وامتدادها العسكري"، لكن محمد مرسي لم يقدّر تماماً معنى عدم موالاة قيادات الجيش والاستخبارات له تماماً، واُختير له من مكتب الارشاد الاخواني الفريق عبد الفتاح السيسي ليكون وزير الدفاع، الذي أشيع وقتها أنه من الاخوان المسلمين.
استهان مكتب الارشاد بعدم موالاة قيادات الجيش والاستخبارات على أساس أن الشارع الاسلامي والشرعية معهم، كما كان يردد مرسي بعد ذلك في قفص الاتهام، وكان وغد مثل خيرت الشاطر يهدد وزير القوات المسلحة ورئيس المخابرات بألفاظ سوقية ليخيفهم، وانتهت لعبة السلطة بين المستفيدين من الاسلام سياسياً والجيش باستيلاء الجيش على الحكم مرة ثانية، بعدما وقف الناس في الشارع حاملين شعارات تندد بحكم الاخوان، وجاء الرئيس عبد الفتاح السيسي الذي نفى تماما الانتماء للإخوان المسلمين أو السلفيين وقال "انا مسلم بس".
يسمع السيسي من المتنورين أنه لم يحدث في تاريخ أي دين أن جاء التغيير من رجال الدين بل من المفكرين، لكنه يطلب تغيير الخطاب الديني من الازهر. يوحي السيسي بأنه رئيس كل المصريين لكنه يفتتح خطاباته السياسية بعبارة "بسم الله الرحمن الرحيم" كاملة، رغم أن السياسة هي فن الخداع والكذب الانيق والدين هو فن العبادة. يصّر السيسي على أنه "مسلم بس" لكنه يقول دائما عن أي عمل مؤسساتي يفعله: "ديني يحثني على فعل هذا"، وليس منطق الدولة أو ستراتيجيتها أو الاقتصاد أو التعايش. تحولت عقيدة الجيش المصري إلى الاسلام، رغم أن عقيدة أي جيش دولة مدنية هي الوطن، مع استمرار إقصاء المسيحيين المصريين على مراكز القرار السيادي ومنصب وزير.
احتفظ دستور 2014 بالمادة الثانية في دستور 1971 رغم مطالبة العلمانيين ومعظم المشرعين بحذفها، لأن وجودها لا يوحي بوجود دولة علمانية، وقد نصت المادة الثالثة من دستور عام 2014، على أن يحتكم غير المسلمين لشرائعهم في مسائل الأحوال الشخصية، وأقرت إحدى المحاكم تطبيق التعاليم المسيحية في الميراث، لكن لم تلتزم بهذه المادة باقي المحاكم المصرية. وفي أمر الإعدام ما زال رأي المفتي (وهو شكليٌ غير مُلزم وعادة يصل بعد تنفيذ الحكم) يؤخذ بالنسبة لإعدام المجرم المسيحي وليس بابا الكرازة المرقسية، وكانت أكبر مفارقة هي أخذ رأي المفتي بإعدام راهبين قتلا رئيس دير.
من هذه الوقائع لا سبب واحدا يفسر في عهد السيسي تغيير قَسَمْ كليات الطب من قسم أبقراط المعروف إلى قسم إسلامي وقت التخرج؛ "أقسم بالله العظيم أن أراقب الله في مهنتي وأن أصون حياة الإنسان في كافة أدوراها"، أو قضايا خدش الحياء العام أو إهانة الذات الإلهية أو إزدراء الاديان وغيرها، التي تُرفع ضد علمانيين وفنانين وراقصات ومطربات، سوى أن الدولة الدينية المصرية المستمرة منذ زمن عبد الناصر تستعمل الخطاب الديني/السياسي منذ سنة 1954 وتستمد شرعيتها من الدين، وهي قيّمة على أحكام الدين وليس تنفيذ أو معاقبة من ينتهك القانون.
*كان أبي يعمل في النادي السوري وسمع بنفسه كلمة الرئيس محمد نجيب، وقال لنا هذه العبارة، وحفظتها في ذاكرتي منذ طفولتي. كان النادي السوري نادياً اجتماعيا للطبقة الراقية ومن ثمار وجود الجاليات في مصر قبل انقلاب يوليو، وكان يضم سياسيين ومصريين ومتمصرين ورجال أعمال وصحافيين وضباط شرطة وعسكريين، منهم على سبيل المثال رئيس الوزراء إسماعيل صدقي باشا، وأحمد فرغلي باشا، و لواء الشرطة عبد المنصف محمود مؤلف أغنية "مين زيك عندي يا خضرة" التي غناها عبد الوهاب، واللواء العسكري جلال صبري والد سمير صبري الفنان المعروف، وأحمد عبود باشا الاقتصادي المعروف، وغيرهم من رجال أعمال وجرّاحين.
نقلا عن الحوار المتمدن