وكيف يكتب من لم يعش أيام ثورة يوليو عن ثورة لم يرها، ولم يعاصر أحداثها، ولم ير رؤية العين نظرة قائدها، وكيف يصير من دراويشها، ويعيش على ذكراها، ذكريات عبرت أفق خيالى بارقًا يلمع فى جنح الليالى؟!.
هو أنا ومثلى كثير من أولاد الطيبين الكادحين الشقيانين العرقانين، الذين منحتهم ثورة يوليو أملًا فى الحياة، وفتحت الطريق سالكًا ليتحصلوا على حقوقهم المهدرة فى بلاط الملك، من قال لهم خالد الذكر جمال عبدالناصر: «ارفع رأسك يا أخى فقد مضى عهد الاستعباد».. فرفعوا الرؤوس ليبصروا حقهم فى الحياة.
أنا هو ومثلى كثير، من تلقى تعليمه بالمجان، وجلس جنبًا إلى جنب مع أولاد الأكابر، كان فى أفواههم ملعقة ذهب، وفى فمى طعم الحياة حلو المذاق، عيش بالأمل، متى كان التعليم لأولاد الفلاحين حقًا، متى كان التوظيف لأولاد العمال أملًا، متى كان لنا نصيب من الحياة، متى كان الأجداد محسوبين كبشر لهم حقوق وعليهم واجبات؟
هو أنا ومثلى كثير، منهم من تحصل والده على خمسة أفدنة بعقد تمليك أخضر، أول مرة فلاح مصرى يملك طينًا، قبلها كان مغروزًا فى الطين حتى رقبته، ويشيل الطين، وطين البرك على كعابه المشققة من لفحة أرض الهجير، ويخدم فى الوسية، وزوجته تخدم فى بيوت أصحاب الطين خدمة العبد للسيد، كان يزرع وغيره يحصد حبات العرق من على جبينه، أخيرًا أكل والدى مما زرعت يداه، وكفاه ابن البوسطجى سؤال اللئيم.
أنا هو ومثلى كثير، منهم من تحصل والده العليل على معاش، جنيهات تقمن صلبه، وربى أولاده من حلال، وعاش على سيرة الثورة مخلصًا، إنها ثورة شعب، ثورة ابن الشعب، ناصر والضباط الأحرار، ويقص علينا الجد الطيب ما تيسر من مرور طيف ناصر على الزراعية، كانت الناس تتوق للرؤية، وتحتشد على رصيف القطار، وترفع أكفها سلامًا وتحية، وناصر كالمارد يطل على الكل، بتنط من عينيه الفرحة، وهو بين أهله وناسه، بين الأحباب، يتشمم رائحة العرق المنسابة على سلسلة الظهور المنحنية فى الحقول.
أنا هو ومن غيرى، وكان نسيًا منسيًا فى عزبة قصية فى مدينة مختفية من على خارطة القطر الكبير، فشب عن الطوق، فإذا بناصر يخبره من القبر يا بنى إن التعليم حق لكم كالماء والهواء، وإن المصريين جميعا أمام القانون سواء، وما نيل المطالب بالتمنى ولكن تؤخذ الدنيا غلابًا.
منحنى ابن البوسطجى، منح ابن الفلاح جواز مرور إلى العاصمة الكبيرة، وكانت العاصمة ووظائفها حكرًا على أبناء الأعيان، صار ابن البوسطجى رمزًا كريمًا، نقتفى أثره فى المشوار الصعيب، وصار علمًا منقوشًا على القلوب فى الصدور، وصار بيت شعر مغنى، ويا جمال يا مثال الوطنية.
نقلا عن المصرى اليوم