رحل الرئيس التونسى الباجى قائد السبسى قبل ثلاثة أشهر من انطلاق الانتخابات الرئاسية، وهو أول رئيس مدنى فى انتخابات تنافسية حرة فى تونس والعالم العربى، وهو أيضا الرجل الذى حافظ على تونس وعلى مسارها الانتقالى الصعب من السقوط فى براثن الفوضى والإرهاب أو الاستبداد والحكم المطلق.
لم تكن صيغة الرئيس التونسى الراحل مجرد تعبير عن سياسات رئيس أو توجهات حزب، إنما هى فى الحقيقة صيغة النجاح الوحيدة فى كل تجارب الانتفاضات العربية، وهى صيغة الرجل الإصلاحى الذى يأتى عادة من داخل الدولة ويحمل مشروع جسر بين النظام القديم والجديد، وبين القوى المحافظة المسيطرة على الدولة القديمة، وبين قوى التغيير المسيطرة على الشارع، ويمثل نقطة التوافق وبداية الانطلاق.
الباجى كان جزءًا من تاريخ تونس المعاصر فهو رمز من رموز الاستقلال والنضال ضد الاستعمار وهو جزء من نظام الزعيم المؤسس الحبيب بورقيبة واختلف معه وابتعد بهدوء، وجزء من نظام الرئيس الأسبق زين العابدين بن على واختلف معه وابتعد بهدوء دون أن يتخلى عن مطلب بناء نظام ديمقراطى تعددى، فالرجل عمل وزيرا للخارجية ورئيس وزراء ورئيس برلمان وبالتالى كان جزءًا من الدولة القديمة التى ثار عليها الشعب التونسى ومع ذلك اختاره أغلب الشعب فى انتخابات حرة ليكون أول رئيس بعد الثورة التونسية.
انتخاب السبسى كان أقرب لشرط لكى تعبر تونس مراحل الخطر وتبدأ الانتقال الديمقراطى وبناء دولة القانون، فقد طوت صفحة التطرف الثورى الذى حاول أن يقصى كل رموز النظام القديم والدولة القديمة لصالح الفراغ الذى يملؤه إما الإخوان أو الجيش، أو يترك للفوضى والاقتتال الأهلى.
تونس لم تقع فى تلك الثنائية لأسباب كثيرة أبرزها وجود رجل الدولة الراحل الباجى قائد السبسى الذى رفض أن يقصى أحدًا أو أن يساوم على التجربة الديمقراطية الوليدة لمكاسب حزبية أو إقليمية ضيقة، فالصالح العام عنده كان أهم من مصالح حزبه والحفاظ على المسار السياسى والديمقراطى كان أهم من إقصاء أى طرف سياسى طالما كان مدنيًا واحترم الدستور والقانون.
صحيح أن تجربة الباجى فى الحكم لم تستطع أن تُحقق على المستوى الاقتصادى إنجازات مساوية لما حققته على المستوى السياسى، ولم تستطع مواجهة البطالة والغلاء وهى أزمة يعتبرها البعض أكبر من الحكم والمعارضة، فهى أزمة منظومة كاملة تضم السلطة والمجتمع اللذين لم يستطيعا حتى الآن وضع يديهما على وصفه للتقدم.
ومع ذلك سيظل الراحل الكبير نقطة البداية الصحيحة حتى لو كان القادم لايزال صعبًا.
رحم الله الرئيس الباجى الذى فاز على المرشح المدعوم من حركة النهضة بنسبة تجاوزت 55% وهو انتصار كبير فى أى تجربة ديمقراطية، وغفر له.
نقلا عن المصري اليوم