طارق الشناوي
التزمّت والقسوة والتخلف لا تفرق بين فنان وسياسى، مصرى وتونسى، تلك العيون التى لا ترى فيها إلا لهيب التشفى والانتقام واحدة، وهكذا تصادف أن يرحل فى أيام متقاربة الرئيس السبسى والفنان فاروق الفيشاوى.
لا توجد أى خطوط تماس قطعًا بينهما، ولا أتذكر حتى إن فاروق مثلا سافر فى السنوات الأخيرة إلى مهرجان (قرطاج)، حيث كان الرئيس التونسى العاشق للفن والثقافة والحرية حريصا على أن يلتقى الفنانين، منح قبل ثلاثة أعوام عادل إمام وجميل راتب وسام الجمهورية التونسى من الطبقة الأولى.
نشط المتطرفون فى عالمنا العربى فى التشفى وكأن الموت عقاب، السبسى يرى أن الدين لا يمكن أن يصبح هو المرجعية السياسية، الإسلام دين وليس دولة، وهكذا أراد السبسى لتونس أن تصبح وطنا علمانيا بحكم الدستور، وهو ما لم نتمكن منه فى مصر، العلمانية تضمن للمؤمن بالدين أى دين، أن يذهب للجامع أو الكنيسة أو المعبد لأداء فروض الله، ولا تسمح لأحد بأن يحول بينه وطقوسه الدينية، إلا أنها لا تعتبر الدين مرجعية للحكم بين الناس، تحمى معتنقيها، ولكنها لا تفرضها على الناس.
اعتقد البعض أن تلك الدعوة التى يتبناها السبسى ذنب وكفر، رغم أنها تتبنى روح كل الأديان، اعتبروا الموت عقابا مستحقًا، جزاء كل ما اقترفه فى حق الدين، السبسى يعبر عن روح تونس العميقة، هذا الشعب البطل قادر على الصمود وأن يمنح الأمل للكثير من شعوب العالم الثالث، لتعيش الحياة، بعيدا عن أصحاب العقول المنغلقة التى تتدثر عنوة بالدين، الشعب التونسى ودع الرجل بما يليق به بالزغاريد، فلقد جاء للدنيا ليسعد الدنيا وغادرها محمولا على القلوب الدافئة، الموت والوداع الحميم، شهادة على الحب وعلى رضاء الله.
فاروق الفيشاوى قال لنا وداعا، فى شهر أكتوبر الماضى قرر أن يصارح الناس بحقيقة مرضه، منحهم كعادته الأمل، فاروق حالة خاصة جدا، عندما وقع فى مصيدة الإدمان- قبل 35 عاما- أعلن على الملأ ليصبح نموذجا لمن يريد المقاومة، يقول ما يشعر به ولا ينتظر أن يرضى عنه الناس، ولهذا تأتى صراحته مباشرة وبلا أوراق (سوليفان)، عندما يجيب على بعض الأسئلة، مثل إذا كانت التوبة هى أن يعلن توبته عن الفن فلن يعلنها، تؤكد أن علاقته بالدين تنبع من القلب لا يتاجر بها، مثلا عندما سألوه عن مقولة عادل إمام إن أفلامه هى المعبرة عن تاريخ مصر أعلن اعتراضه، لأن تاريخ مصر أكبر من أن يقيد داخل إطار أفلام نجم مهما كان حجم إنجازه، أدرك إمام أن فاروق لا يكن له سوى الحب، ولكنه يقول رأيه بلا تزويق، وهكذا وافق على أن يشاركه فى مسلسله (عوالم خفية) ولو كانت لدى عادل أى مساحة غضب فلا يمكن أن يسمح بتواجد فاروق، لأن كل الأعمال الفنية التى شارك فيها منذ 40 عاما يجب أن تبدأ وتنتهى إليه.
عادل لم يستطع حضور العزاء لأسباب صحية لا علاقة لها أبدا بغضب مثلما لم يتمكن من حضور عزاء والدة صديقته المقربة يسرا.
الله لم ينتقم من فاروق بالمرض الشرس، كانت محنة أحالها فاروق إلى منحة، كانت آخر رسائله لنا: الله فى قلبى، وهى الرسالة التى أعلنها الرئيس السبسى!!.
نقلا عن المصرى اليوم