سَبْعَةُ عشر قرنًا على استِشْهَادِ البابا بُطرُس (اﻟ ١٧)
بقلم: القمص أثناسيوس فهمي جورج
تمر اليوم سبعة عشر قرنًا على استشهاد القديسس "بطرس خاتم الشهداء البابا اﻟ ١٧" في عداد باباوات الكنيسة القبطية... الذي قاد الكنيسة في زمن الاضطهاد والهرطقات والاستشهاد، ناظرًا إلى احتياجاتها، مدبرًا لها دون أن يتوارَى حتى نال إكليل الشهادة (سنة ٣١١م).
وُلد في عيد الرسل وتسمى على اسم بطرس أول الرسل، وتأهل بالتلمذة على يد "البابا ثاؤنا" وبالدراسة حتى صار عميدًا لمدرسة الأسكندرية اللاهوتية، وقد لُقب بالمعلم البارع في المسيحية، وحباه الله بمواهب الشفاء وإخراج الشياطين. هذا ويذكر التاريخ أن السيد الرب ظهر للبابا ثاؤنا عند انتهاء أيامه وأخبره (يا ثاؤنا أيها البستاني للحديقة الروحية كنيسة الله، لا تخف على البستان... لأن بطرس سيرويه من بعدك... وتعالَ أنت لتسترح مع آبائك).
ثم بعد أن رقد البابا ثاؤنا بسلام صار "بطرس" بطريركًا في وقت انفجرت فيه موجة اضطهاد قاسية بدأها دقلديانوس (٣٠٣ م)، فواجه في حبريته مشكلة عودة الجاحدين إلى الإيمان من الذين سبق وقدموا السجود للأوثان... ووضع القوانين المعروفة في مجموعة القوانين الكنسية Nomo-Canon، وواظب على إرسال الرسائل الفصحية، وقد اشتهر باعتداله جامعًا بين الأبوّة والحزم فاتحًا أبواب التوبة والرجوع لأولئك الذين ضعفوا تحت الضيق، شريطة أن يظهروا ثمر الإيمان والتوبة اللائقة. كذلك أعطى قانون توبة للغافلين والنائمين، وعامل الرعية بالرحمة والأخوّة، وطبّق القوانين على أساقفة الكراسي والاكليروس.
اتفقت القوانين التي وضعها مع المبادئ الأساسية للكنيسة الأولى التي لا تشجع على الاندفاع والتهوُّر وأعمال الإثارة، لأن الاستشهاد هو كمال الحب الإلهي الذي لا يُغتصب بالإثارة... فالمسيحي الذي يُشعل نار الاضطهاد بإثارته المقاومين إنما يدخل بإرادته في التجارب. كذلك أظهر الترفق الأبوي بالضعفاء والخائرين والهاربين، وقد اتضحت حكمته ورزانته الروحية التي تكمن وراء كل قانون حسب المبدأ الكتابي الذي يؤيده. فلم تكن القوانين التي وضعها فلسفية أو منطقية فقط، بل لها أساسها الكتابي واللاهوتي، من أجل حل مشكلة الراجعين والمرتدين وعدم غلق أبواب الخلاص في وجوههم بعد ان حمل بعضهم علامات يسوع في أجسادهم وناحوا على سقطاتهم.
لم يقبل "البابا بطرس" مطلقًا أن يكون جامدًا في وجه الراجعين للإيمان مهما يكن الثمن!!! وتمسك بالأساس الإلهي والكنسي المملوء أمانًا وسلامًا. هذا وقد أحاط نفسه بصحبة من الآباء الحكماء المتزنين المتعقلين، وقد قاد السفينة بإلهام ووداعة وتعقل واحتمال شديد... لم يشترك في خطايا الآخرين ومتاهاتهم الكلامية في زمن اشتد فيه الاضطهاد والانقسام وبزغت فيه بدعة أريوس.
قام البابا بطرس بحرم أريوس الهرطوقي، وإعلان حرمه (ليكن أريوس محرومًا في هذا العالم وفي الدهر الآتي، ليس له نصيب في مجد ابن الله يسوع المسيح ربنا)، هذا وأخذ البابا بطرس تلميذيه الكاهنين أرشيلاوس وألكسندروس اللذيْن صارا بطاركة من بعده، وقال لهما على انفراد (ليعينني الرب إله السماء حتى أتمم شهادتي على اسمه) وأوصاهم بالحذر من هرطقة التي فاقت كل شر. ثم روى لهما رؤياه عندما رأى وجه المسيح المنير وهو يرتدي ثوبًا كتانيًا ممزقًا إلى اثنين، من الرأس حتى القدمين، وقد أمسك بيديه جانبي الثوب وهو يضمهما إلى صدره!! وعندما سأله البابا بطرس: مَن الذي شق ثوبك يا سيدي؟! أجابه: أريوس هو الذي شقه، فلا تقبله في الشركة، ولا تحله من حرمانه.
هذا ونتلمس في سيرة القديس بطرس وفي كتاباته الصورة الحية للعمل الرعوي وقلبه المحترق على الدوام من أجل الكنيسة المضطهدة ومن أجل الافترقات والانقسامات... لكنه لم يداهن أو يساير الهراطقة ومحبي الظهور والمتشددين... كذلك في شجاعة تصدَى لحيل ومكر الأفاعي الأريوسية... وحفظ الرعية وساندها في مواجهة الاضطهاد العنيف الذي بلغ من قسوته أن الوثنيين أنفسهم تحولوا إلى الشفقة على جيرانهم المؤمنين. وفي ترفقه وضع القوانين الخمسة عشرة، من اجل القبول الجماعي للجاحدين كبداية لمفترق طرق في حياة الكنيسة الأولى وتدابير تأصيل انتشارها، وأخيرًا في شجاعة مسيحية منقطعة النظير تقدم شعبه في الاستشهاد وقدم شهادة الدم حينما طُلبت منه.
سلم نفسه بين أيادي الجنود مقتفيًا آثار سيده، وقال خير لي أن أسلم نفسي فدية عن شعبي ولا يُمس أحد منهم بسوء... وقبيل استشهاده زار قبر "القديس مرقس الإنجيلي" وتحدث إليه (أيها الآب كلي البركة الإنجيلي الشهاد لآلام الرب... اختارك مخلصنا لتكون عامود هذا الكرسي ورئيس الكهنة الأول... وعهد لك بالكرازة في كل كورة مصر، وقد استحققت كرامة الإنجيلي الأسقف والشهيد، ثم اخترت الآباء البطاركة من بعدك... إنني بالصلوات والتضرع أستودع قطيع المسيح الذين اؤتمنتُ عليهم لك أيها المؤسس والحارس لكل الذين شغلوا هذا الكرسي بالتتابع) ثم سجد وصلى قائلاً (يا رب يا رب أتضرع إليك أن تقول سلامًا فتهدأ العواصف التي تحيط بكنيستك... وليكن سفك دمي أنا خادمك خاتمة هذا الاضطهاد الحال بقطيعك الناطق أمين). وقد سُمع صوتًا يقول بطرس آخر شهداء هذا الاضطهاد: بطرس أول الرسل وبطرس خاتم الشهداء.
واليوم تمر سبعة عشر قرنًا على استشهاده (٣١١م – ٢٠١١م)، نطلب بركته وصلواته وشفاعاته عنا... طوباك أيها الراعي الأمين والشهيد الشجاع المكرّم... يا مَن صرت رسولاً مثل التلاميذ في القول والفعل، في الرعاية والشهادة... حفظت الأمانة الأرثوذكسية من الأعشاب الغريبة المسمومة والأغصان الطفيلية، وتسلحت بعذوبة الصبر والدعة تجاه المنشقين كي تتمم إرادة الله في كنيسته... طوباك لأنك تحليتَ باليقظة والحذر واقتناء روح التمييز والصحو وتشجيع التوبة الحقيقية بالعودة إلى شركة الجسد الواحد بالكنيسة... طوباك بالأكاليل لأنك سبقت من ١٧ قرنًا بشهادة دمك كما تسبق نجمة الصبح الكواكب الأخرى، حاملاً مشعل الإيمان بلاهوت عملي حي (لاهوت الواقع والمبادرات) لتجمع وتوحّد وتشجع وتضم وتكمل التدبير كما يليق.
كن في قلب الحدث... انقر هنا لتحميل شريط الأدوات الخاص بالموقع لتصلك الأخبار لحظة حدوثها
تابعونا على صفحتنا علي الفيسبوك
رابط دائم :