بقلم: محمود كرم
بالطبع هناك ثمة وقاحة مفضوحة أن يمنحَ البعض نفسه الحق المطلق في تقسيم الناس إلى صالحين وفاسدين، لمجرد أن الصالحين صالحون في نظره، ولمجرد أن الفاسدين فاسدون في نظره، وليس وفقًا للمقاييس والقيم الإنسانية العامة..
وما يدعو للغرابة والسخف في وقتٍ واحد، أن يتحول الجميع فجأةً وبأساليب درامية في مجتمعاتنا المتمسرحة بفنون الاستعراض الديني الإسلامي، إلى وعاظٍ يعتلون منابر الوعظ الديني في كل زاوية وعند كل ناصية، حاسبين على الآخرين أنفاسهم وحركاتهم وخطواتهم وحتى سكناتهم، معلنينَ عن أنفسهم حُراسًا مطهرين على الفضيلة والأخلاق، وأوصياءً أبديين على النيات والضمائر والأفكار وحتى الهمسات..!!
أليس غريبًا وقبيحًا في آنٍ واحد، أن يمنح الواعظون المدججون بكل مخزون صراخاتهم وتفاهاتهم وعقدهم وعاهاتهم وبذاءاتهم وأمراضهم، أنفسهم الحق الكامل في صياغة حياة الآخرين كما يشاؤون أو كما يشتهون أو كما يريدون أو كما يفعلون أو كما يتخيلون، ويمنحون فوق ذلك أنفسهم الحق (الإلهي) الأبدي في صياغة تفكير الناس كما هم يفكرون أو يستنتجون أو يعتقدون، ويمنحون أنفسهم بلا جدال أو اعتراض، الحق المقدس في تغيير إرادة الناس واختياراتهم ومشاعرهم النفسية وأحلامهم المستقبلية وأمزجتهم الحياتية حسبما يريدون أو يفـعلون؟
وأليس مستهجنًا أن مَن يصرخُ في الناس واعظًا وناصحًا من على منابر الفضائيات والصحف والمنتديات والمساجد ضد التحضر والحضارة والديموقراطية والحريات، بحجة إنها تعاليم مستوردة تعيث خرابًا وتخريبًا في تاريخ الأمة وثوابتها ودينها، بينما في حقيقة الأمر أنه بصراخه وخطابه يعكس ذاته المتخلفة الهشة الممزقة المعتوهة، ويغطي بصوته الصاخب الهادر على واقع إفلاسه واستبداده ونقصه وضياعه وانحداره وتشتته وفراغه وزيف ثقافته؟، فكل هذا الصراخ والصوت الصاخب واستقباح انجازات الآخرين الحضارية ليس سوى انعكاس لنفسية الواعظ الفارغة والضائعة والتائهة، لأن وعظه ونصحه وصراخه المستمر لا يخلقون واقعًا من النتائج والإنجازات الإنسانية الرفيعة ولا يصنعون هدفًا ملموسًا، بل يخلقون حالةً من الارتواء النفسي تملأ في الواعظ الصارخ المستبيح اجتهادات الآخرين وانجازاتهم وقدراتهم، احتياجاته النفسية الباحثة عن ما يمنحها شغف الارتواء وغريزة الشبع ولذة الراحة وشهية التلذذ..
ولذلك هل رأيتم واعظًا دينيًا صارخًا في التجمعات وعلى رؤوس الأشهاد، يطلب من الناس في يوم ما أن يحاسبوه أو ينقدوه على مواعظه ونصائحه وصراخه، ولو كان كل واعظ يعلم مسبقًا أن الناس سوف تحاسبه أو تنتقده أو تسأله أو تنتظر منه نتيجة ما أو هدفًا معينًا، لربما عرِفَ وتيقن أن كل ما يتفوه به ويصرخ به ويستقبح به انجازات الاخرين ويصوغ به أفكار الناس مجرد صراخات وأصوات تائهة، شاحبة المضمون وشحيحة المحتوى وهزيلة النتائج وعديمة الأهداف، وليست في النهاية سوى احتياج نفسيته الدائمة للصراخ وللصخب وللامتلاء المنبري والهتافي والشعاراتي..
وكيف نستطيع أن نفهم أن ما يؤديه الواعظ من مجهودات صوتية فارضةً على الناس نمطًا معينًا من الحياة ونسقًا واحدًا من السلوك أو الأخلاق، ليست مرتبطة بما هو يؤمن به ويعتقده من الأساس، أليس ما يقوم به من فرض قواعد التحليل والتحريم وقواعد الأمر والنهي، تجعله متحدثًا رسميًا باسم السماء وباسم تعاليمه المقدسة وتمنحه الصلاحية المطلقة على المستوى النفسي والشعوري والديني لممارسة طقوس السلطة والتسلط على الآخرين، مندفعًا بهذه الطاقة المشحونة من دون أي حساب أو تفكير للنتيجة التي ينتظرها من وعظه ونصحه وصراخه، فليس كل ذلك مهمًا عنده بقدر أهمية ما يمارسه من سلطة وعظية على الناس تستمد قوتها وجبروتها وأهميتها كونها مرادفة لسلطة السماء، وألا يعني كل ذلك أن الواعظ الديني بطريقة أو بأخرى وبكل أبعاد ممارسته المنبرية تلك، إنما يهدف إلى التدخل المباشر بميول الناس وتوجيه رغباتهم كيفا يريد وكيفما يعتقد، وبالتالي صياغة حياتهم وفق المنظومة التسلطية لثقافة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر..
والواعظ الديني حينما يملي على الناس طريقته في الحياة ويملي عليهم نوازعه في السلوك والأخلاق والفضيلة، فإنما يكون أكثر تأثيرًا ربما من أي سلطات أخرى، أكانت حكومية أو مؤسسية، لأنه يأتي دائمًا مرتديًا ثوب السماء وثوب القداسات وثوب الآوامر والنواهي (الإلهية)، ولذلك نستطيع أن نفهم كم هي مقدار سلطة الواعظ على الناس، السلطة التي تمنحه التفوق على نياتهم وعلى رغباتهم وعلى توجهاتهم وحتى على كينوناتهم الذاتية..
الواعظ الديني بدون أدنى شك لا نستطيع أن نراه من دون أن يكون موجهًا ومتجبرًا وناصحًا ومتنفذًا ومسيطرًا على الناس باسم السلطة المقدسة، ولا يمكن في أي حالٍ من الأحوال أن يجرّد نفسه من هذه السلطة، لأنه من غيرها يفقد كل تلك الصلاحيات، فالواعظ إنما يجيء إلى الناس، يجيء باسم الراسلات وباسم كل الأنبياء، وليس سهلاً أن يجد الواعظ نفسه خارج هذا السياق، فطبيعة شخصيته تتمحور في كونها واعظة وملهمة ومحصنة ضد الخطأ، وفي ذات الوقت متقمصة بجدارة سلطة السماء والأنبياء والرسالات..
وفي مقابل ذلك قد يتخذ الواعظ الديني مسلكًا معينًا في ممارساته المنبرية والهتافية والصراخية، قد تبدو من حيث الظاهر مغايرة عن نزعته السلطوية والتسلطية وجبروت أوامره ونواهيه وقاموس فروضاته الأخلاقية، حينما نجده متسلقًا ضمائر الناس ومتباكيًا على مصائرهم وحزينًا من أجلهم، ورحيمًا بحالهم ورؤوفًا بأوضاعم وطالبًا لهم الهداية والرحمة، وفي مرات أخرى نجده في أشد حالات التواضع والخشوع والتملق لهم، وليس كل تلك الحالات التي يتمثلها والهتافات الوعظية التي يقذف بها فوق رؤوس الناس سوى تدعيم إضافي لسلطته الدينية التي تعني في أحد وجوهها المتعددة، إنها السلطة التي تكون معنية مباشرة بأحوالهم وحياتهم الأخروية، والسلطة المعنية بطرق تجنيبهم أهوال القبر وأهوال يوم القيامة..
الواعظ وثقافة الوعظ الديني يرتكزان على تذكير الناس دائمًا بضعفهم وربما بتفاهتهم وفراغهم وضياعهم وغفلتهم، ولن يخلصهم من كل ذلك الضعف والتفاهة والفراغ والضياع والغفلة سوى وجوب انصياع الناس الكامل لخطبه وتعاليمه ووصاياه وأوامره وصراخه وترغيبه وترهيبه، مستند في كل ذلك على أنه السلطة العارفة والمعنية بشؤون الناس وبأحوالهم وبأوضاعهم في الحياة وفي الممات، وأنه يجيء إلى الناس مرسل من قبل السماء، وناطق بالأخلاق والفضيلة والدين، وفوق كل ذلك القداسة المطلقة التي يغلف بها الواعظ صوته وصراخه وهتافه وخطابه، القداسة التي تجيء بصيغٍ مختلفة وفي أحدها إنها قداسة غيبية تفوق فهم الناس وتفكيرهم وبصيرتهم وعقلهم وإرادتهم وتفسيراتهم للحياة والواقع والظروف، ولذلك فالواعظون يتصرفون ويتحدثون ويخاطبون ويهتفون ويصرخون وكأنهم المتفوقون على بقية البشر، وبطريقة ما يطعنون بمستويات الناس التفكيرية والعقلية في الاختيار والإرادة، وكأنهم الوحيدون الذين يملكون أساليب التحدث بطرق الحياة، لأنهم أقوى الناس في الفضيلة والأخلاق والدين وفي القدرات الذاتية وفي كل مقومات التحدث باسم الإنسان..
محمود كرم
كاتب كويتي
tloo1@hotmail.com