ذكرت الأسبوع السابق أن الشمولية والسلطوية لا تقتصرعلى أنظمة الحكم الاشتراكية، وأوضحت أن ما حدث أثناء فترة حكم جمال عبدالناصر من سيطرة الدولة على مناحى الحياة المختلفة للمواطنين، بداية من السياسة إلى الاقتصاد مرورا بالتعليم والصحة والصناعة والفن، مرورا بالحريات العامة والخاصة، نهاية بالسيطرة على أخلاقيات المواطنين، هو نفسه ما حدث خلال فترة حكم أنور السادات، الذى ادعى ومازال يدعى مناصروه أنه عصر الانفتاح السياسى والاقتصادى، بينما كان كل ذلك فى إطار شمولى توجهه الدولة وتراقب تحركاته.
وقد كان لكل من ناصر والسادات آلياته الخاصة لتمرير خطابه وتوجهاته لمواطنيه، الذين لم يكن لهم فى غالب الأحوال القدرة على المقارنة أو الاستماع إلى غير هذه الأصوات، بحكم الزمن والقدرات التكنولوجية، ففى عهد عبدالناصر ساهمت الإذاعة الموجهة، بمساعدة آلة الصحافة الهائلة بقيادة محمد حسنين هيكل، بالإضافة إلى جوقة فنية تم صناعتها وصقلها بعناية، وضع على رأسها عبدالحليم حافظ لتحويل الأحلام إلى شعارات، والشعارات إلى أناشيد، وهو ما اتبعه السادات بنفس المنهج الشمولى بفريق آخر، لأهداف مختلفة وبشعارات بديلة، بداية من التعبئة للحرب، مرورا بتمرير اتفاقية السلام- وهما خطوتان فى منتهى الأهمية- ولكن الخط الأخطر الذى سخر له السادات آلته الإعلامية كان الدعوة إلى إدخال الدين فى المجال العام فى محاولته للقضاء على التيار الناصرى والاشتراكى، عن طريق إيهام المواطنين بأن النظام الذى سبق عليه كان نظاما لا دينيا، وثانيهما بمحاربة الناصريين واليساريين مباشرة بالجماعات الإسلامية مثل «الجهاد» و«الجماعة الإسلامية» و«جماعة الإخوان المسلمين»، بكوادر تنظيمية فى السلطة مثل «عثمان أحمد عثمان» و«محمد عثمان إسماعيل»، مستخدما آلة إعلامية مختلفة مثل «الشيخ الشعراوى» كداعية لعصر جديد و«الدكتور مصطفى محمود» الذى زاوج بين العلم والدين فى تركيبة مقحمة، حتى خرج السادات معلنًا دون تحفظ أنه الرئيس المؤمن لدولة مسلمة.
وقد بلغ هذا التوجه مداه بعد مظاهرات الخبز فى 18و19 يناير1977 وبدلا من أن يحاول السادات الإقناع بأهمية الإصلاح الاقتصادى، ترك الساحة عمدًا للإسلاميين ليقضوا على خصومه فعليا فى الجامعات، ولينشروا أفكارهم فى أذهان المواطنين، ثم حول نزوعه السياسى نحو التيارات السلفية والإخوانية إلى استحقاقات قانونية ودستورية، ليمرر تعديلا دستوريا يسمح له بالترشح أكثر من مدتين، وفى المقابل حول شيخ الأزهر من رتبة تابعة لوزير الأوقاف، إلى منصب يعادل رئيس الوزراء، ثم قام بالتعديل الدستورى الأخطر 1980 بتغيير المادة الثانية، بجعل «الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع» بعد أن كانت «مبادئ الشريعة الإسلامية مصدر رئيسى من مصادر التشريع»، وهى مجمل التوجهات والقرارات التى لا تزال تعانى منها مصر حتى الآن.
وإلحاقًا لما ذكرته- فى المقال السابق- من انعكاس الشمولية والسلطوية على ذهنية المواطنين، فمن المهم أيضا ذكر تأثيرها على المشاركين فى صنع القرار، حيث تخلق السلطوية طبقة من السياسيين تنحصر قدراتها فى تنفيذ ما يوكل إليها من مهام، دون أن يكون لها أى توجه سياسى، أو وجهة نظر اقتصادية، ولا أى رؤية محددة، وهو ما تجلى فى استمرار تواجد نفس الوجوه فى الاتحاد الاشتراكى، ثم عصر السادات الانفتاحى، ثم خلال عهود مبارك اللااشتراكى واللاانفتاحى، والنقطة الأهم أن اهتمام هذه الطبقة هو إرضاء رؤسائهم دون وضع اعتبار للمواطنين، لأن المحاسبة تأتى دائما من أعلى فى النظم السلطوية ولا يكون هناك أى وزن لاختيارات الشعوب.
إنه وإن كانت نهايات الأنظمة الشمولية والسلطوية أغلبها كارثية، إلا أن نتائج حكم عبدالناصر يمكن علاجها بقرارات سياسية واقتصادية، بينما يتكفل الزمن بمداواة تأثيرها على ذهنية المواطنين، أما ما اقترفه نظام السادات الشمولى السلطوى بمغامراته الإسلاموية، فتجاوزه قد يعد شديد الصعوبة إن لم يكن مستحيلا!
نقلا عن المصري اليوم