مشغول أنا بتدنى السلوك منذ ٢٥ «تآمر»، فى الشارع والمؤسسة والتعاملات البشرية، كأن شيئًا كريهًا قد طفح!.
وأنا أحترم المدافعين عن ٢٥ يناير احترامًا بطعم الحنظل، ولا أدخل فى مناقشات بيزنطية مثيرة للصداع حول مدى «ثورية» هذا اليوم. لكنى أستشعر أن أخلاقًا طارئة دخلت على سلوكياتنا، هى ليست من أخلاق هذا الشعب الطيب الواعى الصبور البطل.
إنها سلوكيات منحدرة من أصول لا أعرفها، وإن كانت «ملافظها» تشى بالسقوط ولا أدرى سر صمت أساتذة الإنسانيات.. علم النفس والفلسفة!.
■ ■ ■
مشغول أنا بتدنى سلوكياتنا التى صارت شكوى الكل، ربما أكثر من الضجر من الأسعار. وأعود لأسأل عالمنا النفسى أحمد عكاشة: هل هناك علاقة بين اقتصاد دولة وأخلاقها؟، وهل يؤثر «تغول» الأسواق على «تغول» الأخلاق؟، وكيف العودة إلى السلوك الراقى؟.. على أنه من المهم أن نضع تعريفًا علميًا لكلمة الرقى. أستعير عبارة نجيب محفوظ عن الرقى «إنه أصل أخلاق المصريين، حيث تتحلى الأخلاق بكلمات تعبر عن احترام الآخر». وأستعير عبارة أحمد زويل عبر حوار تليفزيونى «إنها الشهامة والرجولة التى يتسم بها المصرى». وأستعير عبارة د. حسين أمين من كتابه «ماذا جرى للمصريين؟»: «إذا اختفى الذوق من السلوك ظهر الوجه الهمجى». وأقف عند عبارة د. يوسف إدريس فى مقاله «تمجوشوا يا عرب»- نسبة إلى مجاويش- حين يقول: «أنتم تتعاملون مع شعب متربى بعصاية الكُتاب وأخلاق ريفنا البسيط». مما سردت، اكتشفت أن الرقى هو «أخلاق واحترام الآخر، وكلمات تستأذن، وشهامة ورجولة، وشعب متربى على أخلاق ريفية أصيلة»، وبما أننا جميعًا لنا أدمغة، فإن الفيلسوف الإنجليزى الراحل بن كروفورد يعتقد جازمًا أن كل السلوك الإنسانى صادر من «غرفة الدماغ والتفكير والرغبات». وبالتالى فإن العقل هو الذى يميز السلوك السليم من العيب، ولا يحتاج العيب إلى تعريف سوى أنه «ما يخالف العُرف والأخلاق وصحيح السلوك». ومظهر من مظاهر الهمجية هو اعتبار العيب قاعدة. ويرى المفكر الكبير رجائى عطية «أن اعتياد العيب مزدوج ومركب، واعتياد العيب فى الدين أى دين هو أعيب العيوب». المرجعية لكتاب رجائى عطية «هموم مصرى»، وكلام رجائى عطية يطرح سؤالًا: هل ابتعاد الناس عن صحيح الدين سبب جوهرى لغياب الرقى فى السلوك وتدنيه؟. من المؤكد مشروعية السؤال، فكل الأديان تحض على الفضيلة والرقى فى التعامل مع الآخر واحترامه وتوقيره إذا دعا الأمر. وحين تجىء سيرة العقاب لتدنى السلوك إلى حد الجريمة، يطلق رجائى عطية صيحته «إلغاء الإعدام كعقوبة ترف أحمق طائش».
■ ■ ■
أسوق مَثلين للتدليل على الهبوط الأخلاقى!
١- كان سائقى يقود سيارتى ببطء وهو يعبر بعد الإشارة الخضراء، وهو سائق ماهر يتوخى الحذر من طائش يقرر العبور فى لحظة اختارها، وفجأة صدمتنا سيارة نقل من الخلف بصوت عال كريه «ماشيين فى عزبة أبوكو». فوقفنا ونزل السائق بصمت ودهشة، فإذا بسائق السيارة النقل يقول مباغتًا: «إوعى تفتح بقك بكلمة لأنى قليل الأدب»!!، وكان العقل يقتضى الصمت المطبق، فالوقوف يعطل سرب السيارات خلفنا، والرشد يقتضى السكوت منعًا للاستماع إلى قلة أدب جارحة!. كان السائق فى نهاية العشرينيات وينقل «خضار» وآثرت الإفلات من سلوك متدنٍ!!.
أما المثل الثانى، فقد جاءنى برسالة على الموبايل: فلان تزوج من أخته!! ورفضت أن أقرأ التفاصيل المخزية الدالة على السقوط الأخلاقى. هناك عشرات بل مئات الأمثلة فى التحرش اللفظى والشتائم المقذعة والحركات الزاعقة يحفل بها الشارع. من المتسبب يا ترى؟ هل هو البيت الذى غابت فيه مهمة التربية لأنه فقد أهم وظائفه؟ هل هو المدرسة التى ما عادت تمارس دورها الأخلاقى فى زرع القيم بدءًا من الانتماء وانتهاءً بالرقى؟، هل هو الإعلام الغائب عن الوعى الغارق لشوشته فى مباريات كرة واستديوهات تحليل ودردشات مع الفنانين عن نفخ الخدود وتكبير الشفاه وكيفية تحويل السبانخ إلى سلطة.. ولم يكن الإعلام يومًا كرويًا إلى هذا الحد، فقد اختفت برامج السلوكيات الحميدة وتقديم نماذج الاحترام المتبادل وتفضيل الكلمة الحلوة تفض الغشاوة! ولن تتحرك شاشة لتعميق القضية!.
■ ■ ■
هناك عنصر لا بد من الإشارة إليه وهو «لم نعد شعبًا قارئًا». إن الثقافة سلوك، فأين ثقافة أغلب شبابنا الذين تحكمهم الهمجية والغرور وغليظ القول؟. أين برامج الإذاعة التى تحض على القراءة واقتناء الكتاب مثل «من مكتبة فلان»؟ أين برنامج مثل «كتاب عَلّم العالم»؟. أين 20 سؤالًا من ثقافة الكتب على الشاشة؟. الشاشة خالية، إلا من برنامج مسابقات على «القاهرة والناس» يفى بسمو الهدف. أين الخطط الثقافية لإعادة الكتاب إلى موقعه الذى يتحداه الموبايل، أحد أسباب الانقسام فى البيت المصرى؟. لقد صار الفيسبوك هو الصحافة الحديثة بلا قانون يحرم الانحطاط فى الشتائم!. لقد تربيت على حديث السهرة من «الراديو» لطه حسين والعقاد وزكى نجيب محمود. أين برامج تطوير العقل العربى ليكون المنتج رقيًا فى السلوك؟، ولدىَّ شعور أنى أهذى فوق الورقة!!.
■ ■ ■
أعلم أن الجميع سوف يقرأ كلماتى دون تصرف إيجابى واحد، فهذا «سلو بلدنا». أعلم أن الحكومة سوف تقرأ، إذا كانت لا تزال تقرأ، ثم تطوى الجريدة بطمأنينة. إن الثقافة تمنح الوعى ضد الإرهاب أو التعاطف معه، الثقافة تجعل من الشعب سدًا منيعًا ضد محاولات عرقلة الدولة، والجهل أفضل أرض خصبة لزرع بذور الإرهاب. لا بد من مساهمة المؤسسات الدينية فى إعادة الرقى للسلوك، وسيمضى المقال إلى الأرشيف بطمأنينة.. آه من الطمأنينة الكاذبة المستعارة فى حياة الشعوب.
نقلا عن المصري اليوم