المصريون مميزون في احتفالاتهم بمناسباتهم بطرقهم الخاصة، من ضمنها الغناء، حتى لو كانت تلك المناسبة دينية، ستجد في الأغاني المصرية ما يوثقها، منذ عصر الفراعنة والغناء للآلهة في المناسبات الدينية الخاصة بهم، وصولا إلى الاحتفال بموسم الحج وبالحجيج الذاهبين إلى الأراضي المقدسة، تجسيدا لمدى ارتباط علاقة الدين بالفن.
«إلى عرفات الله» واحدة من ضمن الأغاني المرتبطة بموسم الحج من كل عام، إن لم تكن أشهرها، فالأغنية التي تغنت بها أم كلثوم لأول مرة في عام 1951، لتبقى لنا عملا خالدا نذكره كل عام ونذوب فيه وفي كلماته، وراءها قصة كبيرة طريفة يعود تاريخها إلى أكثر من قرن.
القصيدة كتبها الشاعر أحمد شوقي عام 1910 وأهدها للخديوى عباس حلمي الثاني بن محمد توفيق، الذي كان مقربا منه، وبدأها بـ«إلى عرفات الله يابن محمدٍ عليك سلام الله في عرفات»، والقصد من وراء كتابتها كان المديح اعتذارا للخديوي بعدما هرب شوقي من مصاحبته فى أداء فريضة الحج!
بحسب حسين شوقي في كتابه «أبي شوقي»: الخديوي عباس حلمي الثاني قرر أن يذهب إلى الحج مصطحبا معه أسرته وكان من الطبيعي أن يطلب من شاعره وصديقه أحمد شوقي الذهاب معه وداعبه قائلا: إنه سيركب حصانا مطهما هدية منه إليه ولم يملك أحمد شوقي الرفض فصحب الموكب إلى صحراء العباسية ومن هناك فرّ تاركا الموكب قبل أن ينتبه الخديوي عباس حلمي الثاني، وعاد أحمد شوقي إلى القاهرة وكتب هذه القصيدة وأرسلها معتذرا إلى الخديوي.
فشوقي قال في قصيدته «إلى عرفات» إن الخديوي قد خيره بين السفر بسفينة البحر أو مطية البر، لكنه اعتذر عن هربه متعللا بضعفه وداعيا له بأن يذهب ويعود سالما:
دعانى إليك الصالح (ابن محمد) فكان جوابى صالح الدعواتِ
وخيرنى فى سابحٍ أو نجيبةٍ إليك فلم أختر سوى العبراتِ
وقدمت أعذارى وذلى وخشيتى وجئت بضعفى شافعا وشكاتى
ولكن الشاعر الكبير الذي لم يكن في سريرته يرغب في الذهاب لأداء الفريضة، لم يستطع أن يصرح للخديوي بذلك عبر عن سببه الحقيقي للإحجام في بيته: «ويا رب هل تغني عن العبد حجة وفي العمر ما فيه من الهفوات؟».
على الرغم من أن القصيدة التى تتألف من 63 بيتا تضم كثيرا من الأبيات فى مديح الخديوى ووصف موكبه، إلا أن اختارت أم كلثوم منها 25 بيتا فقط قام بتلحينها رياض السنباطى، لتبقى لوحة فنية تصور حالة الشوق لمن يتمنى زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم وأداء فريضة الحج.
والمثير أن كوكب الشرق صورت الأغنية للتليفزيون في عام 1963 على طريقة الفيديو كليب، ووضعت حجابا على رأسها، وصورت بالأبيض والأسود، في ستوديو مصر، وصمم مناظر "الكليب" شادي عبد السلام، وصوره وحيد فريد، وأخرجه أحمد بدرخان، وكانت أم كلثوم تغنيها كل عام في وصلتها الأولى أو الثانية بأيام الحج، وسجلت الأغنية أيضا ضمن أحداث فيلم «رابعة العدوية» لنبيلة عبيد.
ودخلت على قصيدة شوقي بعض التعديلات الطفيفة لتخرج من الخاص للعام، وكذلك استبدال ألفاظ بأخرى مناسبة للأغنية، بداية من مطلع القصيدة الذي كان: «إلى عرفات الله يابن محمدٍ عليك سلام الله في عرفات»، ليصبح: «إلى عرفات الله ياخير زائر عليك سلام الله في عرفات»، والتغيير الثاني في هذا البيت: «أرى الناس أصنافا ومن كل بقعةٍ»، فأصبح: «أرى الناس أفواجا».
وحتى يصبح نص الأغنية مناسبا للحدث الإسلامي الهام، بعيدًا عن المديح؛ فتغيرت «إذا زرتَ يامولاي قبر محمدٍ» لتصبح «إذا زرتَ بعد البيتِ قبرَ محمدٍ»، وكذلك تغيير «لبيتٍ طهورِ الساحِ والعرصات» إلى «الشرفات» والتغيير الخامس تحول حرف الجر في «وفاضتْ مع الدمع العيونُ مهابةً» فأصبح: «وفاضتْ من الدمع العيونُ مهابةً» أما التغيير الأخير فقد كانت تتلاعب به أم كلثوم أثناء الغناء حيث تقول مرة «وفي العمر ما فيه من الهفوات» وفقا لنص شوقي، وتقول أخرى «من الغفوات» تهوينا لوقع الكلمة على نفس المتلقى في هذا السياق الديني.
وكانت «إلى عرفات الله» آخر أغاني أم كلثوم من أشعار أحمد شوقي، بعد أغانٍ كثيرة من قصائده، منها «الملك بين يديك»، «ولد الهدى»، «فى الأرض شر مقاديره»، «نهج البردة»، «سلوا قلبي»، «سلوا كؤوس الطلا»، و«النيل»، لتحقق نجاحا ضخمًا، لدرجة أن اعتبرها النقاد حينذاك أجمل أغنية عربية كلاسيكية قيلت بمناسبة الحج، وقد حذفت أم كلثوم بعد الحفل الأول الأبيات من الرابع إلى السادس لتصبح الأغنية 22 بيتا فقط.