فاروق عطية
في الذكرى السابعة والستون لحرك الضباط الأشرار والتي أطلقوا عليها زورا وبهتانا ثورة، تحدث الجميع عن تلك الثورة المزعومة ومجدوا في زعيمها وأحاطوه بأكاليل المجد والفخار، ونسوا أو تناسو ما نحن فيه الآن من تردي وفقر وانحدار بفضل هذه الحركة الغير مباركة وما عانته مصرنا الحبيبة من هزائم وانكسار بفضل زعيمها المغوار الذي كان يخشى الظهور منذ البداية بحجة أن له أطفال صغار فى حاجة للرعاية سوف يقاسون عند الفشل.
وحتي نائبه ووريثه في السلطة محمد أنور السادات قد توجه إلى السينما ليلة 23 يوليو 1952م وافتعل معركة مع أحد رواد السينما وأصر على عمل محضر فى قسم البوليس ليكون دليل ابتعاده عند الفشل.
والوحيد الذي لم ترهبه تلك اللحظة هو محمد نجيب الذي لم يذكره أحد، فقد كان شجاعا لم يرهبه الموقف وكان مستعدا لتحمل كل العواقب بمفرده والذي نال جزاء سنمار من باقي الضباط الأشرار وقضي بقية حياته حبيس جدران قصر زينب الوكيل بالمرج، واعتقد أن ذلك كان عقابا ربانيا يستحقه لخيانتة مليكه وأُمته والانجراف خلف شلة من الضباط المارقين.
حين أعلن عن حركة الضباط في 23 يوليو 1952م كُنت في مرحلة الدراسة الثانوية في فترة الإجازة الصيفية (منتقلا من الصف الأول للصف الثاني الثانوي)، كنا منذ شهور مضت نحيي العلم ونهتف للمليك المفدي فاروق الأول ملك مصر والسودان، وكان علينا أن نصدق أكاذيبهم بأن الفاروق كان فاسدا وخائنا وأنه مدمن للخمر والقمار وزير نساء، وأنه السبب المباشر لهزيمة الجيش في حربه مع اسرائيل عام 1948م لضلوعه في شراء الأسلحة الفاسدة. وعند بدء العام الدراسي تبدل الحال وصار هتافنا للثورة وقيادتها مع تحية العلم كل صباح.
تذكرت أول لقاء لى بمن كنا نظنه قائد الحركة اللواء محمد نجيب، كان ذلك بعد قيام الحركة بعدة شهور، وكنت أحد أفراد الحرس الوطنى بالمدرسة، وقد أنيط بنا عمل كوردون على رصيف محطة طهطا لمنع تكأكؤ الجماهير على قطار الرحمة الذي كان يقل رجال الحركة وعلى رأسهم ذلك الرجل الطيب البشوش محمد نجيب لجمع التبرعات لتسليح الجيش. وعند توقف القطار كانت عربة نجيب فى مواجهتى تماما، ابتسم لى برقة وحنان وحيانى رابتا على رأسى
رغم أنه كان بأمكان جلالته الاتصال تليفونيا بقيادة الجيش الإنجليزي المرابط بالقنال أن يقضي علي التمرد العسكري في ساعات، ولكنه كان وفيا لشعبه محبا له، فقد اجتمع مع قيادات القصر وأعلن موافقته على الوثيقة العسكرية حقنا لدماء المصريين، وطلب من على ماهر باشا كتابة وثيقة ملكية توضح أنه نزولا على إرادة الشعب يوافق على التنازل عن العرش.
وكان له مطلب وحيد بأن يحافظ على كرامته فى الوثيقة، فطمأنه على ماهر باشا، وأعلن فاروق ملك مصر نزوله عن عرش المملكة المصرية لولى عهده الأمير أحمد فؤاد في الوثيقة التالية: “لما كنا نتطلب الخير دائما لامتنا، ونبتغى سعادتها ورقيها، ولما كنا نرغب رغبة أكيدة فى تجنيب البلاد المصاعب التى تواجهها فى هذه الظروف الدقيقة، ونزولا على إرادة الشعب قررنا النزول عن العرش لولدنا الأمير أحمد فؤاد وأصدرنا أمرنا بذلك إلى حضرة صاحب المقام الرفيع على ماهر باشا رئيس مجلس الوزراء للعمل بمقتضاه"
وفى 26 يوليو سنة 1952، غادر الملك فاروق مصر مستقلا اليخت الملكى المحروسة متجها إلى منفاه، هنا راودني سؤال :ماذا لو استعان الملك بالانجليز وأخمد التمرد وفشلت حركة الضباط ؟ سؤال لم يتطرق إليه أحد، وبالطبع لا يمكن إيقاف حركة التاريخ أو إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، ولكن من الناحية الفلسفية النظرية البحتة يمكننا إستقراء الأحداث من الماضى قبيل قيام حركة الجيش لتخيل سيناريو ما كان قد يحدث لو لم تقم أو لو فشلت هذه الحركة، وذلك باستقراء أحداث الماضي ومقارنة ما حدث بالفعل لدول صديقة كانت في مثل وضعنا قبيل حركة ضباط 23 يوليو، وما آل إليه وضعها الآن يمكن الإجابة علي هذا السؤال:
1- حين تأزمت الأوضاع بعد إلغاء حزب الوفد لاتفاقية 1936م، حيث توهجت الحركة الوطنية التى لم تكن ضد الانجليز وحدهم، إنما أيضا ضد الملك ومؤيديه، واشتعلت منطقة القنال، ووقعت مذبحة الإسماعيلية قى 25 يباير 1952م، وفى اليوم التالى احرق الأخوان المسلمين القاهرة، وازداد الموقف سوءا بإقالة الوفد فى 27 يناير 1952م، وتعاقبت على مصر أربعة وزارات فى فترة وجيزة، آخرها وزارة نجيب الهلالى باشا صبيحة قيام الحركة. كانت هناك إرهاصات لتصحيح الأوضاع والسير قدما فى طريق ايجاد مخرج للأزمة قبيل التمرد، فقد انشغلت القوى السياسية الجادة فى مصر إهتماما بدعوة النبيل عباس حلمى لجماهير الشعب المصرى للاتفاق على الجلاء ووحدة وادي النيل، داعيا جميع الأحزاب للاتحاد فى كتلة واحدة، وكانت هذه الصيغة كفيلة بحل الأزمة الداخلية حلا طبيعيا، وهى صيغة تعبئة قومية كالتى حدثت عامى 1919م، 1935م.
وقد تمخضت اتصالاته واستشاراته على وضع خطوط رئيسية لمشروع ميثاق وطنى أهم بنوده إلغاء الأحكام العرفية، واجتماع البرلمان فى الموعد الدستورى، ومطالبة بريطانيا الإعتراف بمطالب مصر فى الجلاء التام والوحدة المصرية السودانية.
2- يمكننا بالخيال البحت المقارنة بين حالنا وحالة الهند التى كانت لها حركة وطنية تناضل من أجل الاستقلال عن بريطانيا العظمى بقيادة حزب المؤتمر، برمزه الروحى المهاتما غاندى، وعقله المدبر جواهر لال نهرو.
كانت الهند تقتدى وتتبع خطوات مصر فى حركتها الوطنية بداية من 1919م بقيادة زعيم الأمة سعد زغلول باشا الذى كانت تربطه بنهرو وغاندى مراسلات وصداقة. وقد وفقت مصر بفضل الترابط بين المسلمين والأقباط أن تحصل على نوع من الاستقلال فى تصريح 28 فبراير 1922م ، وتمت صياغة الدستور عام 1923م، وأجريت انتخابات ديموقراطية نزيهة وكان التطلع لنضج هذه التجربة أمل كل مصرى. وتكونت أحزاب مصرية حقيقية نابعة من الواقع والظروف المصرية الوطنية.
فلو استمرت مصر فى طريقها الوطنى دون قيام أو نجاح حركة الضباط 1952م، لكانت مصر الآن فى حالة مشابهة لحد كبير وربما أفضل من حالة الهند الآن، وما كنا وصلنا لما نحن فيه الآن من تردي وتخلّف وانهيار.
3- أدرك الانجليز حاجة مصر للإستقلال بعد أن نضجت مصر ثقافيا واقتصاديا، وبعد أن اشتدت حدة المقاومة ضد الاحتلال وامتناع كل الموردين المصريين عن توريد المواد الغذائية للقاعدة البريطانية بالقنال، وكانت العقبة الكأداء لتحقيق الاستقلال هى إصرار الحركة الوطنية الواعية على أن يكون الاستقلال مشمولا بالوحدة المصرية السودانية المصيرية، الأمر الذى عرقل توقيع اتفاق صدقى- بيفن عام 1946م.
ويمكننا بقليل من الخيال أن نتصور لو استمرت الحركة الوطنية فى مطالبها ورضوخ المستعمر دون قيام حركة الضباط، لكان الاتفاق شاملا الجلاء ووحدة وادى النيل، دون الحاجة لوحدة رومانسية تمت بين مصر وسوريا دون دراسة، بدأت 1958م وانتهت بانفصال مأساوى 1961م عطل مسار القومية العربية المنشودة، وأدى إلى تعقيدات ومسارات غير منطقية تم من خلالها اصطياد مصر والعرب فى هزيمة 5 يونيو 1967م، وما زلنا نعانى من آثارها حتى اليوم.
إن الوحدة بين شطرى وادى النيل كانت ستؤمّن زيادة الموارد الطبيعية واستثمارها لصالح الشعب الواحد مع تيسير هجرة الأيدى العاملة، أيضا كانت ستمكن من تحاشى الصراع الحادث بين شمال السودان وجنوبه والتي أدت لانفصالهما، وكانت رياح الديموقراطية السمحة ستهب من جنوب الوادى إلى شماله.
وسوف يؤدى لتشكيل نواة وبزوغ كيان أو عامود فقرى جغرافى حول مجرى نهر النيل مكونا كيانا مصريا أفريقيا يتسع مع الزمن مكونا صرحا قويا لدولة شمال أفريقية تشمل مصر بشطريها مع ليبيا والصومال وغيرها، وتُجنبنا ما نحن فيه الآن من توتر خوفا من الجفاف وندرة موارد الماء لونجحت أثيوبيا في الانتهاء من سد النهضة.
ولو شطح بنا الخيال أكثر لتصورنا هذه الوحدة الشمال أفريقية نواة لوحدة كل الدول الناطقة بالعربية من المحيط ألى الخليج. ولكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه ..!!