صار مفتاح الشخصية المصرية هو أن تمسك بمفتاح الأخلاق وتؤكد أن هدفك الوحيد فى هذه الدنيا هو الحفاظ على ثوابت المجتمع، فى تلك الحالة ستضمن تمرير أى قرار تريده، نعيش هاجسا صار يشكل (فوبيا) اسمه تفشى الانفلات، ولهذا يتشبث المجتمع بأى قرار يعتقد أنه سيعيد الانضباط للشارع.
ليس مهمًا ما هى دوافعك الحقيقية التى وجهتك لاتخاذ هذا القرار، الأهم هو أن تحيطه بأوراق (سوليفان)، اسمها الأخلاق، مجلس نقابة الموسيقيين، بزعامة هانى شاكر، بعد حصوله على إجماع زملائه ليواصل قيادته للنقابة، اعتبر أن المأساة التى نعيشها سببها انتشار أغانى المهرجانات، فهى تهدد فى مقتل هويتنا المصرية والعربية كده (خبط لزق).
موقف متكرر يعبر فى جانب كبير منه عن ازدواجية اجتماعية، حيث يتعاطى الجمهور مع تلك الأغانى ويرددها فى الحوارى والأزقة وأيضا فنادق السبع نجوم، ولكن لا بأس فى العلن من الجهر برفضها ونعتها بصفة «أغانى بيئة»، هل بهذا الإجراء أحاط النقيب هويتنا بسياج واق من الأمن والأمان عصى على الاختراق؟.
هل سيكف الناس عن التعاطى مع هذه الأغنيات، وسيتوقف هؤلاء المطربون عن الغناء، أم أن وسائط التقنية الحديثة وفرت لهم خطا موازيا قادرا على النفاذ فى كل وقت وبعشرات من الوسائل؟.
يجب أن نضيف بأن هناك أيضا رأيا رسميا يميل للمحافظة، يسعى لإحاطة الفنون بسياج أخلاقى صارم، إلا أن هذا الخط يتم بين الحين والآخر غض الطرف عن الالتزام به، لماذا صمت هانى ونقابته الموقرة عن الإدلاء برأيهم فى ملابس المطربة العالمية جينيفر لوبيز؟!، لو طبقنا معايير (المازورة) الأخلاقية التى يحتفظ بها هانى شاكر فى جيب الجاكتة، لتحديد عدد السنتيمترات المسموح بها للفستان فوق الركبة، وأيضا مدى اتساع فتحة الصدر كحد أقصى، تلك المعايير التى كان هانى، وإلى عهد قريب، يعتبرها من أساسيات ممارسة المهنة، سقطت تماما، قبل أيام، مع جينيفر لوبيز، والسبب قطعا أنه استشعر أن المواءمة السياسة تدفعه لرفع شعار (لا أرى، لا أسمع، لا أتكلم).
المعايير المطاطة تطبق فقط على فنان أعزل، ولكن هل كل أغانى المهرجانات مسفة؟، أراها فى المجمل ليست كذلك، هى سطحية ومباشرة، كما أنها تكرر نفس (التيمة) الموسيقية، ولكنها لا توصف بالإسفاف الأخلاقى، لو كانت كذلك كان الأولى لشرطة الآداب ملاحقتها والنيل القانونى ممن يروجون لها، أقرأ مثلا كلمات هذه الأغنية (اللى ما يحسش وجعنا / يبقى يبعد ويفارقنا/ واللى يفرح يوم دموعنا/ يبقى يوم فرحه مضايقنا) وهى تشبه أيضا هذه (اللى يراعينا نتشرف بيه / واللى بيرازينا بنحط عليه).
حكمة يرددها ولاد البلد بمعانٍ بسيطة تستطيع أن تصفها باعتبارها تنويعات على قانون الطبيعة لنيوتن، ولكن البسطاء يطبقونه أيضا على مشاعرهم (لكل فعل رد فعل مساوٍ له فى الشدة ومضاد له فى الاتجاه).
الاتهام بالتردى صفة لازمت مثلا أحمد عدوية منذ نهاية الستينيات، وأغانيه بداية من (السح الدح أمبوه) كانت ممنوعة من الإذاعة المصرية، ولم يتم اعتمادها سوى فى الألفية الثالثة، ورغم ذلك أخرج لسانه لكل القنوات الرسمية وباعت (السح) مليون كاسيت.
ما هو دور النقابة الحقيقى لو أرادت حقا النهوض بالغناء؟ أكيد ليس المصادرة، فهذا يدخل فى إطار (الشو الإعلامى) الذى يريد هانى تصديره للرأى العام، ولكن خلق المناخ الذى يدفع الكبار والجادين للعودة للساحة، هؤلاء قادرون فى لحظات على ضبط الميزان، لن تختفى أغانى المهرجانات لأنها تعبر قطعا عن ذوق، ولكن سنجد بجوارها فنا آخر قادرا على الحياة.
(السح الدح أمبوه) واكبت قصيدة (الأطلال)، بينما (الأساتوك) لحمدى باتشان واكبت (من غير ليه) لمحمد عبد الوهاب.
والناس حرة تختار بين (الأساتوك ده اللى ماشى يتوك ده) وبين (جايين الدنيا ما نعرف ليه ولا عايزيين إيه).
وللعلم لم تعترض المؤسسة الدينية وقتها نهاية الثمانينيات على (اللى ماشى يتوك ده)، ولكن صبت جام غضبها على (من غير ليه)، على اعتبار أنها تتعارض مع الآية (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون).
لا يوجد خط قطعى يمنع من يتعاطى مع فنون الأوبرا من أن تضبطه وهو يستمع إلى أغنية لشطة أو بيكا أو الديزل أو أو، طبعا من حقك وحق هانى شاكر ألا تستمع إليهم، ولكن لا يحق لأحد منعهم من التداول.
على النقابة ألا تمارس فعلا رقابيا على الوجدان وتترك للناس حرية الاختيار.
عاصر هانى شاكر السنوات الأخيرة لعبد الحليم حافظ، ومؤكد يتذكر تلك الواقعة قبل 45 عاما، عندما وقف عبد الحليم خلف عدوية وردد (السح الدح أمبوه)، بينما عدوية غنى له (خسارة خسارة)، كان عدوية يعتبر فى هذا الزمن عنوانًا للتردى، الآن هو عنوان للفن الشعبى الرصين.
ابحثوا أولا عن إجابة لهذا السؤال: لماذا لم تعد الأغانى الرصينة التى تقدمها أصوات بحجم هانى شاكر متواجدة بالشارع وما تبقى له فى الذاكرة هو فقط أغانى البدايات؟، ببساطة لأنه لم يخلق المناخ المناسب لتلقى الفن الجاد.
المصادرة والشجب والمنع أسلحة البليد، ولا تليق أبدا بنقابة موسيقيين وبنقيب يصر على أن يحمل لقب أمير؟
نقلا عن المصري اليوم