بقلم
دكتور مهندس/ ماهر عزيز
استشارى الطاقة والبيئة وتغير المناخ
فليس المقصود فى العنوان "الطقس" فى ذاته..
"الطقس" بالمعنى المعجمى هو: "شعار الديانة واحتفالاتها"
(معجم قطر المحيط لبطرس البستانى)..
و"الطقس" كذلك هو: "النظام والترتيب"..
و"الطقوس" هى: "نظم الخدمة الدينية أو شعائرها واحتفالاتها"
(المعجم الوجيز لمجمع اللغة العربية بمصر).
"فالطقس" بهذا المعنى له أهمية كتنظيم للعبادة وترتيب لها، وتنظيم وترتيب للخدمة الدينية وشعائرها واحتفالاتها.. " لأَنَّ اللهَ لَيْسَ إِلهَ تَشْوِيشٍ بَلْ إِلهُ سَلاَمٍ" (1 كو 33 : 14).
المقصود بالعنوان إذن هو: "الإغراق فى الطقس" وليس الطقس بحد ذاته.. ذلك أن الإغراق فى الطقس يأتى بنتيجة عكسية فيميت الروح بدل أن يزكيها.. ويُبَلِّد النفس بدل أن يقويها.. ويطفئ الوهج القلبى نحو السمائيات بآليات "كما لقوم عادة".
عبر التاريخ الإنسانى كله راح الإنسان "يطقسن" كل تطلع روحى وكل عقيدة إيمانية.. وانخرط وهو "يطقسن" اعتقاده فى ممارسات جسدية حافلة بتفصيلات مزدحمة انتهت بافتعاله المعقد "لطقسنة" الإيمان وجسدنة الاعتقاد، مما انتهى به فى كل مرة إلى اعتقال للروح، أسرف فيه إلى ابتداع تقييدات جمة بزعم التعبد، فوئدت الروح عندئذ افتداء "لطقسنة" الجسد.
حدث ذلك فى الوثنيات القديمة.. وكانت "الطقوس" تمارس أمام الأوثان على نحو بدائى تمتزج فيه المثيرات الحسية بالحركات البدنية بالتزام شديد بالنظام والترتيب للآليات البدنية المرتبطة بالتعبد أمام الوثن.
وحدث ذلك على نحو ثقيل ومكثف وشديد التفصيل فى العبادات اليهودية كما حددتها الأسفار المقدسة فى "اللاويين" و"العدد" و"التثنيه".. ولأجل غلاظة قلوبهم ارتبط الخلوص الروحى للـه بطقس مفرط فى التفاصيل الدقيقة لتعبدات العهد القديم التى أقيم عليها سبط لاوى وكيلاً وحارساً!!
والحق أن الكنيسة القبطية الأرثوذكسية تحظى بنظام "طقسى" بدأ بسيطاً ميسوراً يزكى الروح ويرفع القلب دوماً للسماويات لكنه لم يلبث أن تعقد على مر العصور والأزمان!!!
فالمسيحية هى ديانة "التجسد".. وكل فعل روحى فيها "يتجسد" فى عبادات تمتثل للنظام والترتيب..
الصلاة فى جوهرها فعل للروح.. لكن الذين أغرقوا فى اعتبارات "التجسد" جعلوا لها "طقوساً" وفق قواعد وترتيبات جَمَّة استهدفت تجسيد مناجاة الروح فى فعل تعبدى منظم يشتمل على الوقوف والسجود والجلوس والبخور والأيقونات والقراءات والمردات والألحان والتوقيتات.. إلخ. بما يجعل من الصلاة أمراً مُعَمَداً فى "طقس" مغرق فى التفصيلات التعبدية..
بينما ركع إبراهيم فى البرية فى سجود مباشر ميسور ورفع رأسه للسماء أو أحناها وهو يلهج بقلبه إلى رب السموات والأرض: "إِنِّي قَدْ شَرَعْتُ أُكَلِّمُ الْمَوْلَى وَأَنَا تُرَابٌ وَرَمَادٌ" (تك 18 : 27).
بل إن يسوع المسيح ذاته.. اللـه الظاهر فى الجسد بكل جلاله وعلوه وسلطانه.. حينما صلى فى بستان جثسيمانى(*).. هكذا بكل التلقائية والبساطة "َرَفَعَ عَيْنَيْهِ نَحْوَ السَّمَاءِ" وَقَالَ: "أَيُّهَا الآبُ".(يو 17 : 1)
لكن الروح البشرية المتلبسة بالجسد "جسدت" كل ما هو روحى ومعنوى فَتَعَيَّن أن "تتجسدن" كل صورة معنوية إلى فعل حِسِّى.. ويستحيل كل معنى فكرى إلى ممارسة جسدية.. وكل مثال رمزى إلى حركات وتصرفات مرسومة يؤديها الجسد..
كذلك فالتفصيلات الكثيرة التى تتلبس بالصيامات -على سبيل المثال- تفعل فعلها المعاكس بما يقصى الروح عن الاستمساك بالجوهر العميق للصيام ودلالاته التى تتجه إلى التحكم فى النزوع الاستباحى للإنسان، وإلى تهيئته أو تأهيله لانطلاق الروح.. طارحة فى المقابل استغراق "جسدانى" محض فى الطعام وأوقاته وزيوته ودهونه وبقوله ولحومه وشحومه على نحو بشرى فاجع!!
التعليم و"الطقس" المرتبط بالأصوام فى الكنيسة القبطية الأرثوذكسية موغل فى تفصيلات تسفر حتماً عن قتل "روح التجرد" التى يتعين أن يكرسها الصيام.. فماذا يمكن أن تضيفه تفصيلات مربكة كالأيام التى يُحَرَّم فيها أكل الأسماك أو يُبَاح بينما يسوع لم يكن أمامه حين يأكل سوى الأسماك والخبز؟..
أليس الأحرى أن تكون المبادئ البسيطة الأساسية هى منتهى "طقس" الصيام: "فترة انقطاع ملائمة"، و"طعام خال من الدسم الحيوانى"، و"وجبة غير ثقيلة".. دون تعقيدات أخرى؟
وهل حين أسس يسوع الأفخارستيا كان التلاميذ صيام؟ أم قدم لهم الأفخارستيا بعد عشاء الفصح مباشرة؟
إن ديانة التجسد فى العهد الجديد قد بدأت بصلاة يسوع فى البستان.. هكذا مباشرة من القلب إلى المسامع الإلهية فى السماويات دون "تجسدنات" شتى لطقوس تعبدية مفرطة فى التفصيلات والدقائق..
تَجَسَدَ الكلمة بيسوع المسيح فَصَلَّى على نحو روحى مباشر تجاوز فى لحظة كل "طقوسيات" التعبدات القديمة إلى الوجود الحقيقى فى حضرة اللـه دون وسائط ودون وكلاء ودون حراس للطقوس أو الذبائح!!
لكن الأمر اختلف كثيراً فيما بعد.. فعبر العصور القبطية الأرثوذكسية تضخمت الذاتية الرعوية للإكليروس حتى أغرقت فى طقوس معقدة باتت عائقاً يمنع شعب اللـه من الاقتراب للملكوت.. فضمرت الروح.. وانسحبت الروحيات العقيدية إلى إطار ضيق من المحفوظات الدينية.. دون أن تجد لها اتساقاً عقلياً وإيمانياً بقبولها.
. وتجنب حتى المستنيرون الخوض فيها.. والتزموا الإكليشيهات المنقولة.. وآثروا النفاق على الجهر بالحق (والحرمان المترتب عليه من الكنيسة).. وإن طرقوا سبيل النقد ففى حذر ورعدة.. حتى غزت المفاهيم المغلوطة والتفسيرات المخاتلة للنصوص المقدسة الحياة الفكرية والسلوكية للأقباط فى الكنيسة كلها.. وباتت الأرثوذكسية فى عِوَز إدراكى كتابى استنارى حقيقى يخرجها من الظلمات إلى النور.. وصار الإكليروس يحجبون نور المسيح وَيجُرُّون الشعب بعيداً عنه.. "فَهَل يُبْصر الشَعْبُ الجَالس فى الظُلّمَه نُورَه العظيم" (مت 4 : 16).
يكمن الخطر فى الارتباط القسرى "بالطقوس" فى أن الإنسان بحد ذاته كائن "طقسانى" مهيأ للاستغراق فى التفصيلات فاقدة المعنى والروح.. التى تشكل فى النهاية قيوداً يستمرؤها ويحلو له أن يخضع لها نفسه بنفسه..
بَيْدَ أنه يتعين على الوعى الروحى السليم أن يخرج الإنسان القبطى الأرثوذكسى الآن من حبائل هذه القيود الثقيلة التى تخنق الروح وتضيعها.
إذا أغرقت الكنيسة فى "الطقس".. فإنها تستجيب على نحو مدمر "للغريزة الطقسانية" فى الإنسان الأدنى.. وتأخذ به بعيداً بعيداً عن المقاصد العليا لمشيئة اللـه، والمظان السامية للروح المحلقة فى السماويات.
أما قرأتم قط كيف حَطَّم يسوع أصنام "الطقس" وأسقط قيوده السقيمة.. وواجه ملامة اليهود لتلاميذه حين "ذهب فى السبت بين الزروع".. وجاع تلاميذه "وابتدأو يقطفون سنابل ويأكلون" مخالفين "طقس" السبت.. فاعلين "ما لا يحل فعله" فيه.. واجه ملامتهم بجسارة الحق قائلاً لهم: " أَمَا قَرَأْتُمْ مَا فَعَلَهُ دَاوُدُ حِينَ جَاعَ هُوَ وَالَّذِينَ مَعَهُ؟ كَيْفَ دَخَلَ بَيْتَ اللهِ وَأَكَلَ خُبْزَ التَّقْدِمَةِ الَّذِي لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ لَهُ وَلاَ لِلَّذِينَ مَعَهُ"... "أو مَا قَرَأْتُمْ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ الْكَهَنَةَ فِي السَّبْتِ فِي الْهَيْكَلِ يُدَنِّسُونَ السَّبْتَ وَهُمْ أَبْرِيَاءُ؟"..
ثم فاجأهم - يُغَيِّر تغييراً جذرياً عقولهم وأفهامهم - بقوله العظيم: "وَلكِنْ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ ههُنَا أَعْظَمَ مِنَ الْهَيْكَلِ. فَلَوْ عَلِمْتُمْ مَا هُوَ: إِنِّي أُرِيدُ رَحْمَةً لاَ ذَبِيحَةً، لَمَا حَكَمْتُمْ عَلَى الأَبْرِيَاءِ!. فإن (اللـه) هو رب (الطقس) أيضاً" (مت 12: 1 - 8).
نعم.. واجه يسوع ملامة اليهود لتلاميذه بأمثلة حية غلبت فيها الروح قصور الطقس، وتهاوت فيها بيسوع قيود التزمت الشكلى .. فأطلق قولته الخالدة: " ههُنَا أَعْظَمَ مِنَ الْهَيْكَلِ. فَلَوْ عَلِمْتُمْ مَا هُوَ: لَمَا حَكَمْتُمْ عَلَى الأَبْرِيَاءِ: إِنِّي أُرِيدُ رَحْمَةً لاَ ذَبِيحَةً" (مت 12: 8).
" رَحْمَةً لاَ ذَبِيحَةً".. " رَحْمَةً لاَ ذَبِيحَةً".. تلك هى الجوهر المكنون للعبادة المقبولة!!
على أن يسوع ذاته مضى يؤكد هذا المعنى ويُلِّح عليه محطماً فى سبيل ذلك كل "سبت" مُعَرْقِل وكل "طقس" مصنوع..
فها هو ذا يُعَلِّم فى أحد المجامع فى السبت"، وإذا إمرأة "بها روح ضعف ثمانى عشرة سنة.. منحنية ولم تقدر أن تنتصب البتَّة".. وإذا برحمة قلبه تغلبه فيدعوها قائلاً: " يَا امْرَأَةُ، إِنَّكِ مَحْلُولَةٌ مِنْ ضَعْفِكِ"، ويضع عليها يديه الشافيتين " فَفِي الْحَالِ اسْتَقَامَتْ وَمَجَّدَتِ اللـهَ".. لكن أصحاب "السبت" العتيدين اغتاظوا لأنه كسر "طقسهم" السلطوى الباتر، وقَوَّض "تحكمهم" الذى يستعبدون به الناس.. فإذا برئيس المجمع يقول للجمع: " هىَ سِتَّةُ أَيَّامٍ يَنْبَغِي فِيهَا الْعَمَلُ، فَفِي هذِهِ ائْتُوا وَاسْتَشْفُوا، وَلَيْسَ فِي يَوْمِ السَّبْتِ!".. وإذا "برب السبت" يؤخذ من عورات كذبه ونفاقه المتلبسه "بطقسه".. ويبتدره بغضب عظيم: " يَا مُرَائِي! أَلاَ يَحُلُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ ثَوْرَهُ أَوْ حِمَارَهُ مِنَ الْمِذْوَدِ وَيَمْضِي بِهِ وَيَسْقِيهِ؟. وَهذِهِ، وَهِيَ ابْنَةُ إِبْراهِيمَ، قَدْ رَبَطَهَا الشَّيْطَانُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً، أَمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تُحَلَّ مِنْ هذَا الرِّبَاطِ فِي يَوْمِ السَّبْتِ؟" (لو 13 : 10 - 17).
كَسَر "رب الطقس" "طقسه" فأمطر نعمته فى يوم "سبته" و" أُخْجِلَ جَمِيعُ الَّذِينَ كَانُوا يُعَانِدُونَهُ" حين وجدهم قد جدلوا من "الطقس" سوطاً مروعاً يضربون به ظهور المحنيين!!.. مشهراً إعلانه الساطع بأن "السبت" قد وُجِدَ لأجل الإنسان.. لا الإنسان لأجل "السبت".. وأن "الطقس" مهما كان هو فى النهاية لأجل الإنسان.. لا الإنسان لأجل "الطقس"!!!
...
أوقف كاهن خديم مرة أحد المتناولين ليمنعه من الاقتراب للتناول بدعوى أنه لم يره واقفاً بين المصلين عندما كان ينشر البخور فى بدء القداس.. أوقفه قائلاً: "من لم يحضر قراءة الإنجيل لن يتناول ومسئوليته على نفسه"!! فتقدم الرجل قائلاً: "أريد أن أتناول ومسئوليتى على نفسى".. فإذا بالكاهن يفاجئه: "بس أنا ما اشتركش معاك فى الخطية دى"؟؟؟ متنكراً لسيده المسيح الذى "قَبِلَ الذين أتوا فى الحادية عشرة" و"ترك التسعة والتسعين وسعى وراء الضال حتى يجده"..
فهل الترتيب والتنظيم للممارسات التعبدية يذهب إلى الحرمان من الشركة المقدسة كما دعا إليها المسيح؟ وهل هذا هو النتاج المنتظر من النظام والترتيب؟ أم هو إغراق فى الترتيب والتنظيم يَبْسُطُ الإكليروس من خلاله سيطرتهم على أناس بلا عدد.. وسلطان بلا حدود.. طالما فى يدهم منح الأفخارستيا أو منعها.. سوطاً يلهبون به ظهر البسطاء فيلوحون بقدرتهم على الحرمان من البركة المقدسة؟
"الطقس" كأداءة لاحتياز السلطان، والضرب به على قلوب الأبرياء، يجب أن يتراجع سريعاً..
و"الطقس" كباب للولوج إلى السيطرة على عقل وروح البسطاء يتعين أن يُمْحَى تماماً..
يضع الإكليروس قواعداً خاصة لممارسات روحية معينة.. ويتشددون فى تطبيقها بحرفية فريسية عجيبة.. فيحرم من الممارسة الروحية كل من يفوته التقيد بالقواعد..
فتصبح القواعد الصماء - المقصود بها أصلاً حسن الترتيب والتنظيم - هى الأولى بالاعتبار، وهى جوهر الممارسة، بينما تتوارى الحقيقة الروحية حتى تضيع.. تضيع مع اهتمام الإكليروس الأعظم بالقواعد الموضوعة، والخطوات وتسلسلها وضبطها، والإجراءات وأحكامها، والممارسات وسلامتها.. ولا غرو أن تموت الروح وتسقط تحت سنابك هذه الفريسية المُرَّة.
السلطان.. السلطان.. السلطان هو آفة الذين يتصورون أنهم وحدهم القيمون على الدين.. وبسلطان فَظّ متعجرف يحيلون حياة الناس إلى فريسة ذبائحية دموية شكلية تكون هى فى حد ذاتها هدفاً وغاية.. منفصلة تماماً عن جوهرها الروحى الأصيل ومرامها الأسمى.
الحق أن النظام والترتيب إذاً كان أمراً واجباً ومكرماً فى الفعل الإنسانى كله، سواء فى
الممارسات البشرية أو السلوكيات التعبدية.. وإذا تأكد كذلك على نحو جوهرى فى النصوص المقدسة التى تنسب إلى اللـه - جل جلاله - النظام والترتيب.. لا ينبغى أبداً أن يتحول عن مغزاه الحقيقى إلى شكليات مدمرة (1 كو 33 : 14).
فإذا ما تحولت "الطقوس" إلى عصا فى يد الكاهن أو سلطاناً فى يد الإكليروس فقدت براءتها الأولى واغتربت عن هويتها الحقيقية باعتبارها تنظيماً وترتيباً للعبادة.
ومن الحيود عن الجوهر.. بل والعيب أيضاً.. أن نتعامل بتزمت شديد مع ترتيبات وضعتها الكنيسة لمجرد تنظيم العبادة.. وهى ترتيبات تنظيمية فى الأساس لم تكن موجودة، وليس بها نص موحى به، بل فقط وضعت للتنظيم.. ولذلك يتعين النظر إليها بوصفها تتضمن مرونة ذاتية تجعلها قابلة للتغيير والتبديل والتعديل والتنقيح والإلغاء والإضافة.
وليتوقر فى أفئدتنا وعقولنا دائماً أن "لا مقدس إلا اللـه".. ولا يمكن للترتيبات التنظيمية أن تبلغ القداسة أبداً لأنها وضعت لترتيب العبادة وتنظيمها ليس إلا؟
أما رفعها إلى مرتبة القداسة لتكون مقدسة عندما يتناولها الإكليروس.. فيكونوا هم أيضاً مقدسين لأنهم قَيِّمُون على أشياء مقدسة.. هنا تبدأ الحلقات الخبيثة للسيطرة وتضخيم الذات وتضييع الشعب والمخدومين.
عندما تقترب "الطقوس" من الروحانية القلبية تصير أقرب إلى الجوهر الذى جُعِلَتْ لأجله.. بينما إذا ما أفرطت فى الشكليات والأحكام الإجرائية والسلوكية افترقت بعيداً جداً عن الروح.
ويبدو ذلك كأجلى ما يكون فى "طقس" أسبوع الآلام الذى يغوص فى الأدبيات الروحية والكتابية إلى ما يسمو بالروح بما يميز الكنيسة القبطية الأرثوذكسية فى ملامح روحانيتها فى المظان التى تُحْفَظُ فيها هذه الروحانية من "الطقس".
بيد أنها كلما غاصت فى تفصيلات لا غناء فيها كلما بعدت عن الروح.
خطر الإغراق فى "الطقس" أنه ينقل المسيحى من الاستغراق فى الروح إلى الاستغراق فى الإجراءات.. يمنحه شعوراً خادعاً بأنه أَوْفَى تساميات الروح بينما هو قد ذاب فى الشكل الخارجى له تماماً.. يكتنفه شعور خادع بأن معيار "الوفاء بالروح" هو "الوفاء بالشكل".
أن يكون "الطقس" إذن لحسن الترتيب والتنظيم فتلك حكمة "الطقس" والأصل فى وجوده.. أما أن تتحكم فى "الطقس" تلك الفريسة الذبائحية الدموية المتسلطة فذلك ما شجبه يسوع وأسقطه إلى الأبد.
أن يكون الترتيب والتنظيم الحسن متسقاً مع الطبيعة الجسدانية للإنسان.. الذى جُبِلَ مطبوعاً على جسدنة كل أمر معنوى إلى سلوك، وكل فكرة نظرية إلى تطبيق، وكل اعتقاد روحى إلى تعبدات مادية، فإن الترتيب والتنظيم الحسن لا يمكن أن ينقلب سوطاً فى يد الإكليروس يلهبون به ظهور البسطاء.