عاطف بشاي
طلب منى كاتب ناشئ نصيحتى لكى يبزغ نجمه فى عالم الدراما السينمائية والتليفزيونية، فبادرته بلا تردد: عليك أن تكون فاشلًا لكى تنجح.. فلما أبدى دهشته أردفت مستدركًا:
- بشرط أن يكون فشلك مصحوبًا بصخب وجلبة وضجيج دعائى تشيع من خلاله- فى كل مناسبة.. وبلا مناسبة.. وفى كل وقت وفى أى مكان تذهب إليه- أنك كاتب كبير.. وأنك الأوحد المتفرد.. الأعظم.. فلتة زمانك.. ومعجزة جيلك.. وأعجوبة عصرك.. وأؤكد لك أن الجميع سوف يصدقونك على الفور.. بل سيحملونك على الأعناق.. وسيتبارون فى الدفاع عنك إذا ما صادفتك العثرات فى طريق صعودك إلى القمة.. فليس المهم القيمة الحقيقية لإنتاجك.. ولكن القيمة فيما تعلنه عن نفسك.. وفيما تشيعه عن أهميتك.. فالجماهير لن تمنحك ذلك الشرف سواء كنت تستحقه أو لا تستحقه.. والألقاب الشائعة وما أكثرها مثل «نجمة الجماهير».. أو «نجمة مصر الأولى».. و«ملك الفيديو» و«مخرج الروائع».. و«مدرب الكرة الداهية» ومعلق المباريات «الجنرال» و«عندليب الملاعب».. كلها ألقاب صنعها أصحابها.. وألحوا عليها فصارت حقيقة.. إن سيكولوجية الشائعة أقوى من الرأى الموضوعى.. وبارانويا الشخصية المتورمة الذات أكثر من التقييم الدقيق.. وبالونات الدعاية أكثر تأثيرًا من الموهبة الحقيقية.. والمسلمات فى حياتنا تبدأ بأكذوبة.. ثم تصير تراثًا.. مثل أكذوبة أن «على بابا» رجل شريف.. بينما هو فى الحقيقة لص أثيم أخذ ما لا حق له فيه وعاش من حصيلته فى رغد عيش مع جاريته «مرجانة»
والإلحاح على الأكاذيب يعطيها- وبسرعة غريبة- شريعة التواجد.. والانتشار والذيوع والتحقق وأن تفرض نفسها كحقيقة ساطعة.
■ ■ ■
منذ أكثر من خمسة عشر عامًا تعرضت لسطو سافر على مسلسل شهير كتبته وعرض محققًا نجاحًا كبيرًا.. حيث انقض هذا الكاتب الذى كان مازال فى أول الطريق- على الفكرة الرئيسية وتفاصيل شخصية البطل.. ونسج منها مسلسلًا مشابها.. وأتذكر وقتها أننى ذهبت إلى أستاذى الروائى الكبير والسيناريست الراحل «يوسف جوهر».. أشكو إليه وأنا أتميز غضبًا وجسدى كله ينتفض بالسخط والانفعال وسألته النصيحة.. هل أقاضيه؟!.. هل أشهر بفعلته النكراء على صفحات الجرائد والمجلات؟!.. هل.. هل؟!.. قاطعنى بهدوء وحكمة: لا تفعل هذا أو ذاك.. أنا شخصيًا أصابنى أكثر من مرة ما أصابك ولم أفعل شيئًا.. صرخت بدهشة واستنكار: كيف يستولى على عصير إبداعى وثمرة جهدى وجوهر فكرى وينسبه لنفسه وأبقى متفرجًا وكأنى أهنئه على جريمته؟.
قال الأستاذ بنفس الهدوء والتؤدة:
- سأروى لك قصة جاءت على لسان شاعر الهند العظيم «طاغور».. حدث ذات يوم أن تم القبض على لص فى دارنا فحملنى الفضول وأنا طفل صغير على أن أسرع إلى مكان الحادث لأرشق اللص بنظرتى المتسائلة الدهشة.. فإذا بى أجد أمامى إنسانًا بائسًا.. وعندما رأيت البواب يجذبه فى عنف وقسوة شعرت برأفة تمس أعماق قلبى وتمنيت فى هذه اللحظة أن أكتب قصيدة من الشعر.. وأضع كلمة إلى جوار كلمة أخرى حتى أنهيت هذه القصيدة البدائية وعرفت منها قدرتى على كتابة الشعر وميلى إلى ذلك.. والآن حين أتذكر تلك الأبيات المسكينة وأقسو فى الحكم عليها فإن الرأفة بهذه القصيدة الأولى تملأ قلبى أيضًا كما امتلأ هذا القلب بالرأفة نحو اللص المسكين.
هكذا اكتشف «طاغور» أنه شاعر.. وقد نبعت شاعريته الأولى من الشعور القوى بالرأفة تجاه إنسان مسكين ساقته ظروفه الصعبة إلى أن يصبح لصًا.. وكان حظه سيئًا فأمسك به البواب وعامله بقسوة حركت قلب الصبى «طاغور» فاكتشف أنه شاعر.
قلت له: ولكنى لست كاتبًا مبتدئا أكتشف نفسى من خلال سرقة الآخرين لى.. قال الأستاذ مكملًا دون أن يتوقف عند اعتراضى: هذه القصة الطريفة تعطينا- كما يرى الناقد الكبير «رجاء النقاش»- المفتاح الرئيسى لشاعرية «طاغور».. وهذا المفتاح هو «الرأفة» فشعره كله بل كل ما أبدعه من فنون أخرى تنبع جميعًا من الشعور العميق بالرأفة تجاه الإنسان والحياة، فليس فى شعر «طاغور» اتهام لأحد أو إدانة لأحد بل فيه عطف وحنان ومواساة حتى للمخطئين والعصاة، ومع ذلك فشعور «طاغور» مضىء وعميق.. إن سرقة موضوع من إبداعك بواسطة هذا القرصان لن تنتقص من قيمتك أو قدرك وفى الوقت نفسه لن تغنيه لأسباب كثيرة:
أولًا: أنه لن ينبغ أو يتفوق عن طريق هذا الأسلوب وسوف يكشفه الجميع كما كشفته أنت فالموهبة هى طريق النجاح.
ثانيًا: ولو لم تم تكن قصتك عميقة ومؤثرة وجذابة لما سرقها.. أما أنت فسوف يستمر نهر عطائك لأنك تستمده من وهج موهبتك وكنز معرفتك وجمال تجربتك وذوب قلبك وعقلك.
انصرفت وقتها وقد هدأت نفسى.. لكن اللص ظل سادرًا فى سرقاته التى كثرت وتعددت فازداد نجاحًا ومالًا وشهرة وانتشارًا (!!).. وسلامات أيها الشاعر الكبير «طاغور».
نقلا عن المصرى اليوم