جمال رشدي : يكتب
لم تكن وزيرة أو سفيرة أو حتي سيدة أعمال، لكن كانت أعظم من ذلك بكثير وعند الكتابة عنها هربت الكلمة وتجمد الحرف وهامت بداخلي ذكريات خمسون عاماً معها لم أكن ابنها فقط خلال تلك السنوات بل كنت شهيق أنفاسها وزفير استنشاقها.
خطفتني الحياة فظللت سنوات عمري هائم حائر متغرب في بلدان كثيرة، وفي خلال ذلك تقابلت مع ألاف البشر ومن مختلف الجنسيات لكن ظلت أمي في كل ذلك تحملني أو احملها في كل ترحالي، ربما انقطع أيام عن الاتصال بها لكن لم تفارقني لحظة أو طرفة عين.
فصوتها دائما يدوي في أعماقي ويهز كل وجداني، كانت سنوات طفولتي صعبة ولم يبقي منها ذكريات إلا حضن أمي التي كانت تسامرني فيه بقصص القديسين وكلام الكتاب المقدس، كنت اتشوق في طفولتي أن اسمع منها مديحة ماري جرجس وبنت السلطان فما زال صوتها العذب يدوي في أعماقي وهي تقولي مال يا يوما مال وقلبي بيحبك يا روماني يا صاحب الصيت العالي أصل الحكاية يأهل الفخر كانت في بيروت نازل نهر يشبه نهر مدينة مصر يسقي الزرع والغيطان وتستكمل باقي المديحة للنهاية بصوت طرب الروح.
وبعدها تقفز مرة إلي إلي الترانيم وفي كل هذا هذا لا تنسي نصيحة الرغيف وحكمتها التي كانت ترددها دائما لي يا ابني ارمي خبزك علي وجه المياه ستلف الأيام ويأتي إليك
كانت حكمتها عظيمة ومحبتها أعظم سهرت علي ليل نهار شاركتني كل آلام حياتي وقفت بجانبي وكنت طفل عندها حتي انتقلت.
كانت تقول لي أنها لم توفي الله أجرة في العطايا الخاصة بالفقراء والمساكين، وكانت تصلي إن يعوضها الله في شخصي أن أقوم بهذا الدور، وانأ هنا أقول لها سأتعهد أمام الله وروحك الطاهرة إن اجعل نفسي مائدة متنقلة علي كل قارعة طريق يأتي إليها الجميع من كل حدب وصوب.
كانت رغم كبر سنها تستغل اللحظة التي اجلس بجانبها، لكي تجهز لي الأكل أو مشروب، كنت عندها كالطفل أحس أنها تريد إن تحملني علي منكبيها، كانت أعظم لحظات حياتها عندما اجلس بجانبها او أهاتفها تليفونيا من الخارج.
قبل أيام من رحيلها كنت في رحلة مصيف فكانت تهاتفني صباحا لتطمئن علي، وتنصحني إن اخذ بالي من الأولاد والبحر، قبل وفاتها جلست معها كثيرا فكانت تتكلم عن لحظة رحيلها كنت ارفض إن اسمع شئ عن رحيلها لأنني لا أتقبل إن تكون الحياة بدونها.
فكانت تقول لي تشدد وتشجع وكن رجلا وحافظ علي المحبة ، وخلي بالك من أخواتك وكانت تكرر أنها سترحل وهي مرتاحة لأنها رأت أولادي ولان ربنا رزقني بزوجة صالحة.
كانت رسالة سلام ومحبة للجميع كلماتها تنضح حكمة وموعظة يصعب علي قلمي صياغتها، فجميع من تعامل معها أو عاشرها يقول أنها كانت سيدة عظيمة وللغاية .
انتقلت يوم الثلاثاء الماضي وقبل انتقالها ذهبت اعترفت وتناولت من الجسد المقدس، وقالت لقدس أبونا بيشوي رسمي إنا لا أريد شئ من الدنيا إلا المحبة والسلام لأولادي وللجميع، وقبل رحيلها بلحظات جلست تناولت طعام الإفطار مع الأسرة، وجائت بزيت مقدس ودهنت جسدها وبعدها جلست علي سرير وأسلمت الروح.
كانت قد قامت بشراء كفن ابيض وجهزته لنفسها وأعطت وصية أنها تلف بهذا الكفن ولا يغسلها احد ... نعم رحلت القديسة إلي حضن أبا~نا القديسين إبراهيم واسحق ويعقوب
نعم رحلت أنفاس شهيقي وزفيري واصبحت حبيس ذكريات لا تنسي، كل كياني يرفض إن يصدق إن أمي رحلت ولن اسمع صوتها أو أبوس يدها
كل ما استطيع إن افعله أن استكمل رسالة محبتها وسلامها عند كل ما أتعامل معه ... رحلت الأسطورة أمي في هدوء وسلام لأنها كانت تطلب ذلك وتقول يا رب لا تحوجني لأحد أو تجعلني تقيله علي احد واجعلني أعطي ولا اخذ.
رحلت السيدة التي كانت وستكون إلي إن يشاء الله وأقابلها هي كل ما املكه رحلت بالجسد ولكن سأحمل ذكرياتها لأولادي وأخواتي وكل الأهل والعائلة ... وكل ما اطلبه هو سلام من الرب يمطره في قلبي وقلب الأسرة لكي ترحل عاصفة الحزن والألم .