مثلما تركت القاهرة تنمو وتتوحش بشكل عشوائي عبر القرن الماضي -باستثناء تجارب نادرة ناجحة تخطيطيا وعمرانيا علي رأسها ضاحية مصر الجديدة التي يرجع تأسيسها إلي عام 1906- حتي بات قدر المخططين والمهندسين إصلاح وترميم المشكلات الناجمة عن النمو العشوائي… يبدو أننا لم نتعلم ونعيد تكرار هذا الواقع مع ما نطلق عليه المدن الجديدة, وهي تسمية تعبر عن المشروعات العمرانية التي تبعثرت خارج الانفجار العشوائي للقاهرة أكثر مما تعبر عن أي جديد في المعايير التخطيطية والأهداف العمرانية ومحاور الحركة والتشريعات الحاكمة للتحكم في إعادة توزيع الكثافات السكانية المتزايدة والأنشطة الاقتصادية الجاذبة لها.
الأهداف التخطيطية لعلاج مشكلات القاهرة كانت واضحة ووسائل تحقيقها لم تكن مستعصية علي المخططين وفي مقدمتها تحديد النطاق العمراني الأقصي للعاصمة وإحاطته بطريق دائري يحده بحيث يتيح سهولة الحركة المرورية بين المحاور الرئيسية القادمة من خارجها والمحاور الرئيسية المتجهة إلي داخلها, وحماية ذلك النطاق العمراني الأقصي من العبث به بوضع التشريعات التي تمنع بيع الأراضي الواقعة خارج الطريق الدائري… علي أن يتم تخطيط عدد من المدن الجديدة تسمي في علم التخطيط مدن الأقمار باعتبارها تلتف حول العاصمة الأم أو الكوكب وتقع مدن الأقمار علي المحاور الرئيسية الخارجة من العاصمة وتبعد عنها مسافات كافية يحددها المخططون بحيث لا تسمح بالتشجيع علي الوصول إليها بصفة يومية من العاصمة الأم حتي يتحقق الهدف العمراني, من تفريغ العاصمة من كثافات سكانية وأنشطة اقتصادية يتم توطينها في مدن الأقمار… وبذلك يتم رفع الضغط علي العاصمة الأم وكما وصف المخططون تتوفر حياة سعيدة لمن يبقون في العاصمة علاوة علي حياة جديدة لمن ينتقلون لمدن الأقمار.
أيضا حدد المخططون شرطا جوهريا لنجاح هذا السيناريو وهو وضع التشريعات التي تمنع بيع الأراضي المطلة علي الطرق الرئيسية ومحاور الحركة التي تربط بين القاهرة والمدن الجديدة محذرين من مغبة عدم احترام ذلك بصرامة فتكون النتيجة نموا فطريا للعمران علي تلك الطرق يأخذ في التزايد حتي تتوه الحدود العمرانية لكل من القاهرة والمدن الجديد, علاوة علي عودة مشكلات التكدس وارتباك الحركة علي الطرق السريعة فلا تعود سريعة ناهيك عن تداخل وارتباك الخدمات والمرافق واستفحال المعاناة!!
من لا يتفهم أبعاد واقعنا هذا سوف يلوم المخططين ويلعن جهلهم ويتهمهم بالتقصير والتركيز علي السطحيات والجماليات دون الجوهر العمراني والتشريعي – ولا تتعجبوا من تكرار استخدامي لتعبير التشريع وأنا أتحدث عن التخطيط, فالذين درسوا علم التخطيط يعرفون تمام المعرفة أنه ليس مقصورا علي تقسيم الأراضي وشبكات الطرق وتوزيع المنشآت, إنما لا تنفصل عنه بل تسبقه وتتوازي معه الدراسات الاجتماعية والسكانية والاقتصادية والبيئية والقانونية التي تجتمع نحو كفالة حياة أفضل للناس- وأكاد أقطع في حالتنا أن المخططين أبرياء من هذا الشطط, وأن ما نحن بصدده هو ميراث صادم لخطايا خطيرة ارتكبتها الأجهزة المحلية والإدارية في غفلة من اليقظة السياسية.
ولعل الأمثلة حولنا, نحن سكان القاهرة, حيثما نتحرك تصرخ وتفضح التسيب وغياب التشريع وضياع الرؤي التخطيطية في علاج مشكلات النمو العشوائي للقاهرة حتي تكاد تخلف عواصم قاهرية صغيرة بدلا من المدن الجديدة…
** الطريق الرئيسي المعروف بطريق القاهرة- الإسماعيلية نشأت عليه تباعا مدينة العبور ثم مدينة الشروق ثم مدينة العاشر من رمضان, وكان لكل منها الحيز العمراني والطابع التخطيطي والنشاط السكاني الخاص بها, إلا أنه ما لبثت التشريعات تتنحي جانبا ويسيل لعاب السلطات المسئولة -ولست أدري تبعية تلك السلطات ونحن نتحدث عن مدن جديدة لها حدود عمرانية وسلطات محصورة داخل تلك الحدود – أقول يسيل لعاب السلطات لبيع الأراضي الواقعة علي هذا الطريق الرئيسي لمشروعات شتي منها التعليمي المدرسي أو المتوسط أو الجامعي ومنها التجاري ومنها الترفيهي وغيرها, حتي تحول طريق القاهرة – الإسماعيلية إلي مشهد عمراني متواصل تتخلله المدن الجديدة وتصبح سمته تكدس المرور وارتباك الحركة وضياع رؤية مدن الأقمار حول العاصمة الأم.
** الطريق الرئيسي المعروف بطريق القاهرة- السويس نشأت عليه تباعا تجمعات عمرانية مثل التجمع الخامس ثم مدينة بدر ثم مدينتي وغيرها… وها هي درة هذا الطريق العاصمة الإدارية الجديدة تبني وتزدهر لتبشر بنقلة حضارية تخطيطية لعاصمة جديدة لمصر تنتقل إليها سائر أجهزة الإدارة والقيادة والوزارات والسفارات لتفريغ العاصمة الأم من عبء ثقيل يكبلها… لكن أيضا نعود للمشهد ذاته فنجد الأراضي علي طول مسار طريق القاهرة- السويس ترتفع أسعارها ويتم بيعها لشتي المشروعات التي تراصت جنبا إلي جنب وواحدا تلو الآخر لتسلب الطريق السريع سرعته وتغتصب الطابع التخطيطي المأمول لمدن الأقمار المحلقة حول العاصمة الأم.
** قالوا لنا في يوم من الأيام منذ ما يقرب من ثلاثين عاما إنه تم تخطيط مدينة جديدة تسمي مدينة 6أكتوبر تبعد نحو 25 كيلومترا عن محافظة الجيزة لتكون نقطة جذب اقتصادي وعمراني وسكني تعمل علي سحب كثافات سكانية من الجيزة لتحد من توحشها وتكدسها, وتم استحداث محور مروري جديد سمي محور 26 يوليو لتيسير سهولة وسرعة الحركة من الجيزة إلي مدينة 6أكتوبر… وكان المأمول حماية هذا المحور المروري من كل ما يضر سيولة المرور عليه علاوة علي حماية النطاق العمراني للمدينة الجديدة, فماذا حدث؟… الإجابة تتجسد في المشهد الذي ألفناه جميعا حيث تكاد تتصل الجيزة مع 6أكتوبر وتعج الأراضي المطلة علي محور 26 يوليو بالمشروعات التعليمية والتجارية والمكتبية وغيرها حتي أصبحت الحركة علي الطريق خاصة في ساعات الذروة – وأقصد بساعات الذروة نحو 18 ساعة في اليوم!!!- معاناة مستمرة وعذابا في التكدس, وبات المضحك المبكي أن السلطات تخطط لإنشاء طريق بديل لمحور 26 يوليو قبل أن يكتمل النمو العمراني لمدينة 6 أكتوبر!!
*** هذه أمثلة قليلة من أخري كثيرة لخطايا سياسية وإدارية يتصور البسطاء أنها أخطاء تخطيطية.