مراد وهبة
كيف أمكن لمحمد على التوفيق بين مطلبه من الثقافة الغربية فى صورتها التكنولوجية ومطلب نابليون من بث أفكار التنوير فى الثقافة المصرية؟
كان جوابه على النحو الآتى: إرسال مبعوثين مصريين إلى باريس لتلقى العلوم الحديثة من علوم طبيعية وعسكرية بقيادة الشيخ رفاعة رافع الطهطاوى لتحسين إدارة الحكم وتقوية الجيش، وتكون وظيفة الطهطاوى فى حينها مقصورة على منع تأثر المبعوثين بثقافة التنوير وذلك بمنعهم من قراءة ما يترجمه الطهطاوى إلى العربية من مؤلفات فلاسفة التنوير الفرنسيين، وبذلك يكون قد أرضى نابليون بإيهامه بأن الطهطاوى قد تعلم اللغة الفرنسية لترجمة شذرات من هذه المؤلفات، وقد كان، إذ ترجم اثنتى عشرة شذرة من تلك المؤلفات. يقول فى كتابه المعنون «تخليص الإبريز فى تلخيص باريز».
قرأت جزءين من كتاب يسمى «روح الشرائع» مؤلفه شهير بين الفرنساوية يقال له مونتسكيو وهو أشبه بميزان بين المذاهب الشرعية والسياسية ومبنى على التحسين والتقبيح العقليين، ويلقب عندهم بابن خلدون الإفرنجى كما أن ابن خلدون يقال له منتسكيو الشرق، أى منتسكيو الإسلام. وقرأت أيضاً فى هذا المعنى كتاباً يسمى «عقد التأنس والاجتماع الإنسانى» مؤلفه يقال له روسو وهو عظيم فى معناه. وقرأت فى الفلسفة تاريخ الفلسفة المشتمل على مذاهبهم وعقائدهم وحكمهم ومواعظهم، وقرأت فى معجم الفلسفة للخواجة فولتير وفى فلسفة قندياك.
وإثر انتهائه من ترجمة بعض ما ورد فى هذه المؤلفات وضع شرطاً لقراءتها وهو التمكن من القرآن والسنة حتى لا يغتر بذلك ولا يفتر عن اعتقاده وإلا ضاع يقينه، لأن أهل باريس لهم فى العلوم الحكمية حشوات ضلالية مخالفة.
والجدير بالتنويه هنا أن مخطوط كتاب «تخليص الإبريز» كانت به فقرات حذفها رفاعه عند نشر الكتاب. ومن هذه الفقرات فقرة عن إثبات علماء الافرنج لدوران الأرض حول الشمس، وكان مكانها بالمقالة السادسة فى آخر التعريف بالجغرافيا الفلكية. وعندما تحدث عن الحشوات الضلالية المخالفة للكتب السماوية المتضمنة فى علوم أهل باريس حذف بقيتها وهى كالقول بدوران الأرض ونحوه.
وكما حذف لفظ كفرة التى كان يستعملها مراراً مرادفة لكلمة نصارى فى قوله: «ثم إن بلاد أوروبا أغلبها نصارى أو كفرة». وفى تقديمه للدستور الفرنسى يقول: «فلنذكره لك لتعرف كيف قد حكمت عقول الكفرة بأن العدل والانصاف من أسباب تعمير الممالك وراحة العباد».
كل هذا يعنى أن رفاعه، وهو ينقل ثقافة فرنسا فى القرن الثامن عشر، كان يدعو فى الوقت نفسه إلى عدم تمثل هذه الثقافة. وسبب عدم التمثل أن روسو وفولتير ومونتسكيو كانوا يدعون لتأسيس مجتمع لا يستند إلى أسس دينية إنما إلى أسس مدنية لأن المجتمع، فى رأيهم، من صنع الإنسان وحده. وفى تقديرى أن عدم تمثل رفاعه لهذه الثقافة هو السبب الذى دفعه إلى عدم ذكر علوم اللاهوت عند إحصائه لعلوم الغرب. فمن المعلوم أن هذه العلوم قد تطورت إثر حركة الإصلاح الدينى فبزغت من الكاثوليكية البروتستانتية التى تقوم على الفحص الحر للإنجيل، أى على التجربة الشخصية بغير ما حاجة إلى السلطة الدينية، وأصبح معنى العلماء فى الغرب مغايرا لمعناه فى الشرق.
نقلا عن المصرى اليوم