نوال السعداوي
حين أضع كلمة «كاتبة» إلى جوار كلمة «زوجة» تصبح الجملة غير متسقة أو غير منسجمة أو متناقضة مع التاريخ البشرى، ولا أقول الطبيعة البشرية. ذلك أن الطبيعة البشرية، ليست هى التاريخ. فالتاريخ قد دأب منذ نشوء النظام السياسى المعروف بالعبودية إلى تشويه الطبيعة البشرية، لكى تخدم النظام الحاكم. تم تشويه طبيعة الفقراء، والنساء، والعبيد، من أجل مصلحة طبقة الأسياد. هذا النظام العبودى شوه أيضا طبيعة الأسياد، من أجل
الاستغلال والسيطرة والاستبداد والجشع والقسوة. أصبح السيد الحاكم يموت بالتخمة، والخمول والكسل والتسلط والجبروت والساديّة. بينما يموت العبيد والفقراء والنساء، من الفقر والإرهاق والجوع والمهانة والماسوشية. نشأ نظام الزواج العبودى ليتماشى مع النظام السياسى. حيث قام على ثنائية السيد والعبد، الرجل والمرأة، الحاكم والمحكوم، المقدس والمدنس، الاله والشيطان.
والملاحظ، أنه على مر السنين، وفى معظم البلاد، تطورت القوانين المختلفة التى تقع خارج نطاق العائلة. ولكن قوانين الزواج والطلاق، أو قوانين الأحوال الشخصية، الخاصة بتكوين الأسرة لم تتطور أو لنقل إن تطوراتها لم تمس جذور العلاقة بين الرجل والمرأة. فقد بقيت علاقة أبوية، من الطراز الأول، قائمة بين طرف «أعلى»، هو الرجل، وطرف «أدنى» هو المرأة. هذه العلاقة هى الأساس الحجرى الصلب الذى يؤسس المجتمع والدولة والثقافة والإعلام والتعليم والأديان والتربية والأخلاق.
كل هذا البناء الضخم المتوارث عبر قرون من الزمان يقوم على كتفى المرأة الزوجة. هذه الفتاة الصغيرة الضعيفة العِظام المرهقة بالعمل داخل البيت وخارج البيت، لتحمى الأسرة الأبوية من الانهيار والتفكك. أسرة يملك الرجل زوجته، وأطفاله، كما يملك الأشياء، يفعل بهم ما يشاء، ويحدد مصيرهم حسب مزاجه، ونزواته، وشخصيته المريضة. منْ هى الكاتبة الساخرة التى قالت: «إن الله خلق الرجل ليفكك الأسرة وخلق المرأة لكى يحميها من التفكك»؟ مقولة ساخرة بليغة،
تختصر التاريخ البشرى، ومأساة النساء، وتكشف حقيقة أنه لولا «الزوجة»، ما أصبحت هناك «أسرة»، لما وُجد المجتمع، ولما قامت الدول. تتربى المرأة على الحفاظ على الأسرة، وتحمل كل الصعاب لعدم تشريد الأطفال وتفكيك الأسرة. يتربى الرجل على حقه فى إنهاء الزواج، والطلاق الشفهى، وتعدد الزوجات، لمجرد رغباته الجنسية والنفسية التى لا تتحلى بأدنى مسؤولية تجاه الزوجة والأطفال والأسرة. والمفاهيم الثقافية والأخلاقية، كلها، ووسائل الإعلام ومقررات التعليم تخدم مقولة: «المرأة تعشش والرجل يطفش». أى ثقافة ومفاهيم غير أخلاقية، وغير إنسانية، وغير عادلة. لكن هذا هو الواقع، السائد منذ أزمنة العبودية وحتى اليوم، فى أغلب بلاد الدنيا. والسبب أن النظام الأبوى لا يزال يحكم العالم، وإن تغيرت مسمياته، وأشكاله، وأثوابه، وألاعيبه وطرق خداعه، واستغلاله. والإصلاحات التى تحدث من حين آخر، هنا أو هناك، كلها إصلاحات من السطح لا تغوص إلى جذور المشكلة إلى الأساس الحجرى الصلب إلى الجريمة الأصلية القديمة، المؤسسة منذ زمن العبودية. بقيت البؤرة الفاسدة التى تفرز الازدواجية دون مساس، تتكرر جيلا بعد جيل، وهى العائلة الأبوية. هذه العائلة التى لا تجد غضاضة فى أن يكون للرجال الأزواج عشيقات وخليلات من نساء الهوى، يوصفن بالفسق والفجور والتفسخ الأخلاقى. بينما يظل الرجال الأزواج شرفاء، لا يعيبهم شىء فى أخلاقهم. وتبقى النساء والزوجات والأمهات، حبيسة الأخلاق غير الأخلاقية، والعدالة الغائبة، والكيل بمكيالين. يصعب عليهن الكلام، أو الرفض، أو حتى التساؤل. حيث تحاط الازدواجية بهالة من المفاهيم الدينية، التى تصف المرأة، أو الزوجة، أو الأم، المتمردة، بأنها ضد الشرع الإلهى، وضد الله، وضد الطبيعة، وضد الفضيلة، وضد تماسك الأسرة. لكن الكتابة سلاح ضد الظلم، والجهل، والخوف. بالكتابة يرتفع وعى المرأة، وتزداد قوتها على المواجهة، وكشف حقيقة الزواج الأبوى، وحقيقة الرجل، وحقيقة زوجها، الذى إن كان كاتبا مثلها، تفاقمت المشكلة، واشتعلت أكثر المعركة. هو مشغول بالكتابة، وهى مشغولة بالكتابة، منْ إذن يقوم بالطبيخ، والغسيل، ودعك المراحيض؟ تصبح الخادمة، أو الطباخة ضرورية للزوج ليأكل أكلا شهيا، ويرتدى ملابسه نظيفه، ويلمع سيراميك الحوض والمرحاض لمعانا كبيرا. فى حالة أن الزوجة كاتبة مثل زوجها تصبح الخادمة ضرورية أكثر من الزوجة، لأنها تلبى الاحتياجات اليومية للزوج، وتعوض ما تفشل الزوجة المشغولة بالكتابة عن توفيره. وربما يسألها زوجها الكاتب، لماذا أصلا تكتب؟ ألا يكفى أنه يقوم بهذه المهمة؟ لماذا لا تتركه يكتب لهما هما الاثنين، وتكون راضية، وممتنة، وقنوعًا؟ وإذا كانت تكتب أشياء ثورية لا ترضيه، ولا تتماشى مع أفكاره، وتسبب له الحرج، مع الناس، ومع المسؤولين، يغضب، وينهرها، ويتهمها بالتطرف،
والتهور، وعدم تقدير المسؤولية. والكاتبة الثورية، المتشبثة بكتاباتها، وإبداعاتها، ينتهى بها الأمر إلى الطلاق، أو السجن، والتعرض إلى الشتائم، وبلاغات ازدراء الأديان والحسبة، من التيارات الدينية، والمتحالفين معها، المزايدين على الوطنية، والدين، والفضيلة، ومصلحة الأسرة.
نقلا عن المصرى اليوم