خالد منتصر
«القبح ظاهر والجمال مدفون» هى الجملة المفتاح وحل الشفرة. بين المطرية التى كانت والتى أصبحت تدور أحداث تلك الرواية البديعة المدهشة بتفاصيلها الموجعة «الخروج من الأرض السودا» للروائى والطبيب أحمد يوسف شاهين، والصادرة عن دار نهضة مصر، الأرض السودا التى يدور فيها صراع بين من ينقب عن الآثار وبين من ينهب ويقيم العمائر ويبيع الوهم للبسطاء. الرواية مقسمة إلى فصول، كل فصل يحمل اسم شخصية من شخصيات الرواية، تحكى القصة من زاوية رؤيتها، يُذكّرك ذلك بتكنيك رواية «الرجل الذى فقد ظله» للروائى الكبير فتحى غانم، هو تكنيك صعب لأنه كلعبة البازل، كل شخصية تُكمل الناقص وتكشف المسكوت عنه مما أخفته الشخصيات الأخرى، حتى تكتمل الجدارية الروائية فى النهاية. القارئ والشخصية يشاركان فى هذا البناء الملحمى، لم تفلت من المؤلف خيوط هذا النسيج الروائى الصعب، ظل يجذبك كقارئ حتى النهاية بذكاء ولؤم روائى جميل ومشروع. المطرية هى لقطة عدسة الزووم الظاهرة التى يحملها المؤلف فى كفه، مصر هى لقطة عدسة البانوراما التى يخفيها المؤلف فى جيبه.
البداية مدهشة، تمسك بتلابيبك وتضعك أمام مواجهة تلهث مع تفاصيلها حتى نهاية الرواية. ماهر مختار هو مينا السرجاوى! مفاجأة تفاصيلها دامية، كُتبت بقلم الخوف وألم العبودية، مينا المسيحى كان عبداً عند آل الدهشورى فى قنا، وكان يجهز سرج الركوبة للحاج عادل! نعم، عبد بكل تفاصيل العبودية، وعندما علت العين على الحاجب ونشأت علاقة بين بنت الدهشورى وابن الأنجاس، كما كان عادل الدهشورى يصفهم، أُحرقت بيوتهم وهرب مينا من الثأر إلى المطرية وصار ماهر!! تزوج وأنجب وهو يحمل هذا الاسم والجميع يتعامل معه على أنه ماهر المسلم الذى يصلى معهم الفجر. تيمة العبودية تظل تلاحقك مع كل سطور الرواية كتنويعات على نفس لحن القهر فى زمن وتوقيت مفصلى فى تاريخ مصر، ما بعد ثورة يناير.
مينا أو ماهر هو المحور، لكن هناك عدودات حزن مختلفة مع كل نغمة، هناك ابنه ممدوح ماهر، تاجر البالة الحالم باقتحام دنيا التمثيل والذى يقع فى حبائل طارق السلامونى المخرج الذى يستغله فى فيلم تسجيلى عن قاع المطرية وأبيه الهارب المتنكر، ممدوح الذى أحب رانيا بنت عبدالمسيح الجواهرجى وشقيقة ضابط القسم هانى، هناك مريم بنت سلامة المغترب فى السعودية منذ سنوات، التى تتشكل بذرة الرواية من التقليب فى ألبوم صورها، تهوى الرسم مثل أمها وتُقهر مثلها عندما تُجهض ألوانها وخطوطها، تتزوج من عزت زواجاً روتينياً وتعيش عبدة لروتين العريس الجاهز والستر المنتظر، وكما خدعها عزت، خدع الأب أمها وتزوج من صديقتها سالى التى لم تجد شيئاً تستثمره فى غابة الضباع إلا جسدها، مصعب شقيق مريم المتطفل على المجتمع المخملى والذى لا يستطيع التخلص من جلباب المطرية برغم السينيهات الباريسية، خال مريم محمد الجارحى الإخوانى الانتهازى الذى يشارك رضا صاحب الوكالة الجشع وأمير الشيخ السلفى المنافق فى مشروع عمارات الأرض السودا، المؤامرة يشترك فيها رجل الأعمال وعضو مجلس الشعب ووالد المخرج الكاره للمطرية وأهلها، يبيعون الوهم فى الهواء وقبل البناء بإيصالات، هناك عائشة نموذج البنت المصرية الذى نراه يتكرر كثيراً حتى صار القاعدة، البنت التى زرعنا فيها إحساس الذنب منذ طفولتها، كلما قتلت أنوثتها أكثر صعدت درجات سلم الفردوس، صارت داعية فى بيوت الأرستقراطيات، كانت صدمتها فى النهاية فى حبيبها الذى استخدمها، تورطت فى قضية اغتيال ضابط شرطة، انتهت بالهروب وإجراء جراحة تكبير ثدى!
تفاصيل الرواية متشعبة لكنها مثل شبكة الصياد «الشانشلة» التى عشقها مينا السرجاوى، تستطيع بسحب خيط واحد صيد كل السمك الذى يقفز متلألئاً إلى حيث الضوء الخادع المراوغ، إنها تجربة روائية تستحق الاهتمام والإشادة والقراءة والاقتناء، أحببتها وسعيت إلى أن تشاركونى هذا الحب.
نقلا عن الوطن