د.مينا بديع عبدالملك
حدث فى أواخر فترة البابا يوساب الثانى «١٩٤٦-١٩٥٦» البطريرك ١١٥ أن ازدادت القلاقل فى الكنيسة، بسبب الحاشية التى كانت تحيط بالبابا، وبالأخص من تلميذه، مما اضطر المجمع المقدس إلى أن يجتمع ويطلب من البابا حتمية مغادرة المقر البابوى بالقاهرة. وفعلًا، فى فجر السبت الأول من أكتوبر ١٩٥٥ غادر البابا المقر البابوى إلى دير المحرق بأسيوط، ثم تشكل مجلس بطريركى لإدارة شئون الكنيسة. فى ذلك الوقت كان الأستاذ، جندى عبدالملك وزيرًا للتموين، وكان يتابع أعمال المجمع المقدس، أولًا بأول، حتى يمكن للحكومة أن تقف على تفاصيل الأحداث.
عندما نمى إلى علم المجتمع القبطى ما يدور داخل أروقة المجمع المقدس، وبغيرة حسنة على الكنيسة قام الطبيب السكندرى والمؤرخ الكنسى، د. منير شكرى مترى «١٩٠٨-١٩٩٠»، وأحد مؤسسى جمعية مار مينا العجايبى للدراسات القبطية بالإسكندرية، بإرسال رسالة بتاريخ ٢٧ مايو ١٩٥٥ إلى الأستاذ جندى عبدالملك، من بين ما جاء فيها: «.. احذفوا جواز انتخاب مطران لمنصب البطريركية، فتشيعوا السلام بين المطارنة، وتجعلوا كلًا منهم ينصرف إلى العناية بإيبارشيته، وينصرف رؤساء الأديرة إلى العناية برهبانهم، فيجعلونهم أمثلة حية للحياة والمبادئ المسيحية، وأن الزمان ليجود علينا بميزة انقطعت منذ العصر الذهبى للكنيسة، وهى ميزة وجود شباب مثقف، تزينه القداسة فى الأديرة، فانتهزوا هذه الفرصة وثبتوا تقاليد الكنيسة وارجعوا إلى الحق، إن الرجوع إلى الحق فضيلة، دعكم من العلاجات الوقتية والمسكنات، وارجعوا إلى التقاليد التى وضعها آباؤنا وأجدادنا عن بينة وتجارب.. المخلص: منير شكرى».
فى انتخابات البطريركية عام ١٩٧١، أرسل رسالة خطيّة شديدة اللهجة، بتاريخ ١٢ أبريل ١٩٧١م للقائمقام فى ذلك الوقت، وهو الأنبا أنطونيوس، مطران كرسى سوهاج والمنشأة، سكرتير مجمع الأساقفة، الذى رشح نفسه للكرسى البطريركى! يطلب فيها أن يعتذر عن المضى فى الترشح فمن بين ما كتبه: «.. أرجو أن تسمحوا لى بالتقدم إلى مقامكم، لأعرض على مسامعكم صوت التقليد والطقس والتاريخ فى انتخاب بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، ورب الكنيسة يهدينا جميعًا إلى سواء السبيل. ففى المجمع المسكونى المقدس الأول المنعقد بنيقية عام ٣٢٥ م، أعطى قانونه السادس لأسقف الإسكندرية الرئاسة على الكنيسة فى مصر وليبيا والخمس مدن الغربية، كما حرّم فى القانون الخامس عشر أن ينتقل الأسقف من مدينة رُسم عليها إلى مدينة أخرى. وكانت هذه القرارات طبعًا نتيجة أحداث واختبارات لا مجال لسردها فى هذا المقام. ويشاء القدر بعد ذلك بخمسين عامًا، أى فى عام ٣٨٠ م، كما يخبرنا الأب (دوشين) فى كتابه (التاريخ القديم للكنيسة) فى المجلد الثانى، وكما يخبرنا كذلك المؤرخ (باردى) فى كتابه (تاريخ الكنيسة منذ البدء إلى أيامنا هذه) فى الجزء الثالث، أن يُمتحن قديسًا عظيمًا تحترمه وتجله كنيستنا، بل وتستعمل قداسه فى الأعياد السيدية، فى احترام هذا القرار المجمعى، عندما أراد الأمبراطور ثيؤدوسيوس الكبير أن ينصبه أسقفًا على القسطنطينية، فأدخله فى احتفال كبير إلى كنيسة (أجيا صوفيا)، فما كان من قديسنا إلا أن جلس بجوار كرسى الأسقفية، وذلك لأن الأنبا باسيليوس الكبير كان قد سامه على كرسى (سازيما) غصبًا عنه، إذ إنه كان زاهدًا فى كرسى الأسقفية، فهو أطاع الأمبراطور بأن يتولى التعليم فى القسطنطينية، ولكنه لا يستطيع تبعًا للقانون الخامس عشر لمجمع نيقية أن يجلس على كرسى أسقفيتها، هذا القديس هو (غريغوريوس النزينزى) الناطق بالإلهيات، عند ذلك رأى الأمبراطور حلًا لهذه المشكلة، أن يدعو مجمعًا مسكونيًا آخر عسى أن يستطيع إعطاء القديس غريغوريوس التصريح ليجلس على كرسى القسطنطينية. فانعقد المجمع المسكونى الثانى بالقسطنطينية عام ٣٨١ م، وحضره ١٥٠ أسقفًا، منهم جماعة من مصر تحت رئاسة البابا تيموثاؤس الثانى والعشرين. انعقد المجمع تحت رئاسة غريغوريوس، ورغم ما قدمه أنصاره من حجج، بأنه رُسم على كرسى (سازيما) رغمًا عن إرادته، وأنه لم يباشر عمله هناك، فلم يقم قداسًا ولم يرسم كاهنًا، وأنه لم يأتوا به من كرسيه ولكن من وحدته، رغم كل ذلك، وإرادة الأمبراطور وقداسته حكم المجمع بأن يتنحى عن كرسى القسطنطينية، واختار بدلًا عنه علمانيًا هو (نيكتاريوس) أحد أعضاء مجلس المدينة إذ شهد له وزكاه أسقف تسالونيكى الأرثوذكسى، بل وتبين لهم بعد الاختيار أنه لم يكن قد تعمد بعد فعمدوه! كل ذلك حدث حتى لا يجعلوا أى استثناء للقانون ١٥ الذى رأوا ضرورة المحافظة عليه لسلام واستقرار الكنيسة فى مستقبل الأيام، وقد حافظت على هذا المبدأ كنيستنا إلى يومنا هذا، إذ تنص الفقرة الرابعة من الاتفاق الذى عُقد بين كنيستنا وكنيسة إثيوبيا عام ١٩٥٩، والذى صادق عليه المجمع المقدس فى كيفية اختيار البطريرك الجاثليق (ويُختار وفقًا لقوانين وتقاليد كرسى القديس مرقس بالإسكندرية من بين الرهبان الإثيوبيين الذين لا تعلو رتبتهم عن درجة القمص وهو المبدأ المعمول به أيضًا فى سائر الكرازة المرقسية)، وقد وقع عليها نيابة عن البابا كيرلس السادس من الأكليروس الأنبا باسيليوس مطران أورشليم والقمص مكارى السريانى، لنضع نصب أعيننا صالح الكنيسة وتقاليدها التى نفخر بها ونباهى بها على سائر الكنائس، ثم مسئوليتنا نحو الأجيال المقبلة. هذه صرخة إن ذهبت اليوم مع الريح تذهب غدًا باوتاد. فليكن عهدكم كعهد سلفكم الطقسى العظيم الأنبا أثناسيوس القائمقام عام ١٩٥٧م، الذى أصر على أن يكون الانتخاب وفق تقاليد وطقوس وقوانين الكنيسة. والله قادر أن يرشدكم لما فيه الخير».. منير شكرى.
وعلى أثر هذه الرسالة من د. منير شكرى، بالإضافة إلى مساعى بعض الآخرين من المخلصين للكنيسة أن أصدر الأنبا أنطونيوس القائمقام بيانًا أعلن فيه اعتذاره عن عدم المضى فى ترشيح نفسه للمنصب البابوى، وقد نُشر هذا البيان بجريدة «وطنى» بعددها رقم ٦٤٦ الصادر صباح الأحد ٢٥ أبريل ١٩٧١، ومما جاء فيه: «.. إنى أعتذر عن عدم المضى فيه، شعورًا منى بقصرى عن النهوض بأعباء هذا الكرسى العظيم الذى ينوء كاهلى الضعيف بمسئولياته الضخمة. وإنى أكنّ كل إعزاز وفخر، منذ اللحظة الأولى التى اجتمعت بها بإخوتى الأحبار الأجلاء أعضاء المجمع المقدس وآبائى المباركين أعضاء هيئة الأوقاف القبطية وأعضاء لجنة أوقاف البطريركية، وشرفونى بانتخابى بالإجماع قائمقام بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، أعلنتها صريحة بأنى أشعر بارتياح تام لو قصرنا الترشح على الرهبان فقط، أسوة بما حدث فى عام ١٩٥٩، وكنت إذ ذاك أحد أعضاء المجمع المقدس، وكانت نتيجة الانتخابات البابوية مُشرّفة للغاية، فأتت لنا بالقديس العظيم المطوب الذكر البابا كيرلس السادس، وكان عهده، رغم قصره، عهدًا ذهبيًا حافلًا بالمكاسب والأمجاد. أقول هذا لا طعنًا أو تجريحًا فى آبائى القديسين الذين كانوا مطارنة وتبوأوا عرش البابوية فى الماضى، أو فيمن يريدون ترشيح أنفسهم حاليًا من الآباء الأساقفة والمطارنة الأجلاء.. إنما أقول هذا، تعبيرًا عن عقيدة أؤمن بها وأستريح لها ورأيًا أعتز به. والآن، إذ أذكر مشاعر الأحباء الكرام الذين اهتموا بتقديم هذه التزكية، شاكرًا للجميع عظيم محبتهم.. أعلن فى الوقت نفسه عن حُبى العميق وتمسكى وإعزازى الكامل بإيبارشيتى الغالية كرسى سوهاج والمنشأة، رعاة ورعية وبلادًا ومواطنين أعزاء.. لا حرمنى الله منهم ولا من محبتهم. حفظ الله الكنيسة الخالدة ورعاها، هذه الكرمة التى غرستها يمينه، سائلين الله أن يقيم لها الراعى الصالح الذى يسوسها بأمانة وطهارة وبر وعدل.. الأنبا أنطونيوس، قائمقام البابا». من له أذنان للسمع فليسمع، انزلقت الكنيسة فى سلسلة من المخالفات القانونية. كنا نتمنى أن يكون ذلك المؤرخ العظيم معنا فى انتخابات ٢٠١٢ ليوقف المهازل التى حدثت. لكن!
نقلا عن الدستور