عادل نعمان
دكتورة درية شرف الدين ذكرتنى فى مقالها فى «المصرى اليوم»، بما فعله نظام البشير الاستبدادى الإخوانى، لما غازل تيار الإسلام السياسى، وتواطأ معه، ليس بهدف رفع كلمة الدين، بل صفقة مزدوجة لاستمرار حكمه على رقاب شعبه من ناحية، وسيطرة رجال الدين على عقول الرعية من الناحية الأخرى، حين أقام حد الجلد على امرأة مسكينة بتهمة ارتداء بنطلون ضيق، مخالفة بذلك تعاليم اللباس الباكستانى الإسلامى الفضفاض! وهى عقوبة ليس لها سند شرعى على الإطلاق، تجلد المسكينة وتتلوى من شدة الألم، تقتلها وأهلها المهانة والذل «وحولها جوقة من المتفرجين المصابين بتبلد الإحساس».
وأقول لك يا دكتورة بصدق: حين يكون الجلد والرجم والضرب حدا أو عقوبة مباحة على الملأ، مكشوفة بلا ساتر، مفضوحة ومهانة دون حاجب أو حاجز، وانتصارها المبين على الضحية الضعيفة محل زهو وفخر واعتبار- فإن هذا المرض هو الرجاء والمنتهى، وهذا المريض العليل هو ذاك الطبيب المداوى، سقيمان لا يبرآن. وحين يشارك فى العقوبة هذا المريض، ويؤجر على «الرجم» وكأنه مسؤول عن تنفيذ أوامر الله، وقائم عليها، وحاكم باسمه، ويده التى تنفذ وتبطش، وكأنه على صلاة، فإن هذا المريض يموت وتتوالد فى مقامه أولياء الشياطين الأوفياء البررة، وكلما اقتربت الضحية المسكينة من الموت تحت هول حجارتهم، ومنهم الغرباء والأقرباء، فرحين مستبشرين، أدوا الأمر وفازوا وربحوا، فرحت الشياطين وسعدت فقد فازت بملايين البشر.
ماذا تنتظرين من طفل يشهد قطع يد، أو جلداً، ويرفع حجرا ويهوى على رأس ضحية، فيسيل دمها وتموت ولا تعرفه ولا يعرفها؟ أتدرين كيف تموت الرحمة فى القلوب، وتوغر الصدور حقدا، وتملأ النفوس وتشحن بالغل والانتقام؟ ليس غير ذلك من سبيل، فإذا استحسن هذا الفعل ما برئ من هذا الداء عمره، وإذا كان مأجورا عليه استوظف عنده، وكانت لقمة عيشه حتى الممات، هو هذا المريض الذى تتحدثين عنه، وهذا هو المتبلد الذى تخشينه، وهذه هى الشياطين والعفاريت التى تلهو حولنا، وهذه هى لغة القبيلة التى تفرض سطوتها على لغة الدولة.
الغريب أن تراثنا عامر بهذا النوع، مبارك بقصص العنف والغدر والانتقام، يروجون له ويدعون إليه، ويربطونه بمن جاء رحمة للناس أجمعين، لا والله وألف لا، ما جاءنا النبى إلا بالرحمة والمحبة للعالمين، وما بُعث إلا ليتمم مكارم الأخلاق، وما جاءنا من رسول إلا وكان إماما وشهيدا على الناس، من ظلم منهم ومن سرق ومن قتل ومن نهب بغير حق، وإلا يقولون لنا هذه دياناتكم وهذه عقائدكم وشرائعكم وأحكامكم، فنخرج على الناس نقتل ونأسر ونسبى وننهب، ولسنا بظالمين، ونؤجر مرتين إذا أصبنا، ومرة لو أخطأنا ، ويرضى الله عنا إذا أنصفنا أو تعسفنا.
قولوا لنا أخطأنا القول، وراجعنا ما جمعناه ونقلناه وسردناه، وخلطنا بين بطولات واحتلال وغزو وبين دعوة رسالة بالموعظة الحسنة، بين الإكراه على الإيمان وبين حرية الاختيار، بين أحكام لأم القرى ومن حولها وبين أمم لم تكن لها من أمور مكة وأحوالها من شىء، بين نزوات الحكام والولاة وبين فتاوى المشايخ والفقهاء، بين أحكام دارت مع علل وعورات وخلل مجتمعى برئنا وخلصنا منها وبين الحرص على استمرارها وتدشينها كل حين، بين دولة دينية فاشلة وفاشية وبين دولة مدنية عامرة بالحرية. حريتنا رهينة الاحتلال والغزو منذ قرون، لن نفلح إلا إذا أزحنا الاحتلال وخرج المحتل من بلادنا، إنه احتلال العقول والقلوب.
راجعوا حكايات ومرويات تجاوزت الحق والعدل، على أنها نصر مبين، وحق معلوم، تمسك بها المتطرفون واستندوا إليها، والتفوا بها حول الضحايا يصفقون وينتشون، وهى هفوات إنسانية وبشرية، دخيلة على الرسالة، وليست من عند النبى، وضعوها بعد عشرات السنين، فليس مقتل كعب بن الأشرف بحز رقبته من الخلف شهامة، وليس فسخ وشطر أم قرفة نصفين بطولة، وكذا ليس قتل عصماء بنت مروان بغرز الخنجر فى صدرها ورضيعها عزة، وليست رواية بنو قريظة عدلًا مهما كان من أخطائهم ومثالبهم وعيوبهم، وكلها محض افتراء على النبى، فإذا كان «ولا تزر وازرة وزر أخرى» مبدأ إلهيا، والعين بالعين والسن بالسن عدلًا إلهيًا، والقصاص حياة يا أولى الألباب شرطًا إلهيًا- يصبح كل ما جاءنا مخالفا لهذا، سرد الهواة والحواة لبطولات عربية منسوخة وملفقة، فلا يمكن أن تدخل امرأة النار فى هرة، وندخل نحن الجنة فى قتل البشر.
يا دكتورة: نحن قوم نحتاج إلى العلاج والتأهيل، يضعون حولنا سورًا لا نخرج منه إلا إذا برئنا وصلحنا، كلنا ضمن هذه الجوقة، صغيرا وكبيرا، كلنا دواعش، ظلمونا وظلموا أنفسهم، وألصقوها بنبى الرحمة تحت دعاوى وأغراض سياسية، وما جاءنا إلا نبيا ومبشرا ونذيرا، أما سياسة الأمويين والعباسيين والخلفاء والفقهاء والوهابيين والوضاعين هى التى فتحت هذه الساحات لهذه الجوقة فى السودان وفى كل دولنا الإسلامية.
نقلا عن المصرى اليوم