يوم ١٣ أغسطس، ذكرى رحيل أبى المتصوّف الجميل، وأيضًا «اليوم العالمى لمستخدمى اليد اليسرى». وتحيّرتُ: هل أكتبُ عن العظيم الذى غرسَ فىَّ قيمَ المحبة والعدل والتسامح حتى مع الخصوم، أم أكتبُ عن طائفة تمثّل ٧٪ من البشرية، شاء الچينوم أن أنتمى إليها؟ وتعلمون، حين تتعدّدُ البدائلُ نتحيَّرُ، ونميلُ أحيانًا إلى «الثالث المرفوع» هربًا من «معضلة الاختيار».
وبالفعل، مرَّ اليومُ دون أن أكتب عن هذا أو ذاك. لكنّ مصادفةً حدثت بالأمس عدّلت قرارى. فى أحد المولات، استوقفتنى سيدةٌ أنيقةٌ وصافحتنى بمودةٍ، ثم نادت ابنتها الواقفة مع رفيقاتها على مقربة. وما إن شاهدتنى الصبيةُ حتى ركضت نحوى بلهفة وعانقتنى قائلةً إنها تحبُّ مقالاتى وتحتفظ ببعض كتبى وإننى مَثَلُها الأعلى. ثم لمعت عيناها فجأة وهتفت: (وكمان أنا فرحانة إنى «شولة» زيك. الأول كنت متضايقة. بس لما عرفت إنك شولة بقيت فخورة إنى باشبهك فى حاجة!) سألتُها: (وليه زعلانة إنك شولة؟) قالت: (حاجات كتير مش متصممة علشانا. المقص، ساعة اليد، الحاجز الإلكترونى فى المترو، الجيتار، البيانو، الماوس، القلم الحبر، شريط القياس، مقاعد المحاضرات، بندقية الرماية، فتاحة المعلبات، الفتيس، سوستة البنطلون، ووو.. بينسونا لما بيخترعوا!).. شعرتُ أن القدر يحرّك أقلامنا. وَعدتُ جميلةَ العسراوات «مروة» بالكتابة عن «العُسْر»، وشرح السبب العلمى الذى جعلها وجعلنى وقليلين فى العالم، نستخدم اليسرى، عكس معظم البشر.
يُطلقُ علينا الأمريكان فى العامية southpaw، (مِخْلَب الجنوب). لأن ملاعبَ البيسبول تُصمَّم باتجاه الشرق لكيلا تؤذى أشعةُ الغروب عيونَ اللاعبين. ولكن اللاعب الأعسر يقذف الكرة نحو الجنوب. ويقول العِلمُ إن چين LRRTM1 هو المسؤول عن العَسَر، لأنه يُنشِّط فصَّ المخ الأيمن، المتحكّم فى نصف الجسد الأيسر. وهذا الفصُّ المُبدع هو ماكينة الخيال واللغة والرياضيات والفنون. لهذا نجد كثيرين من العُسْر فنانين وأدباء وفيزيائيين. ولكى لا تشعر «مروة» بالعُزلة، أخبرُها أن رائعين مثل: «آينشتين، أرسطو، بيتهوڤن، نيتشه، نابليون، الإسكندر الأكبر، تشرشل، غاندى، نيوتن، مارى كورى، داڤنشى، مايكل- آنجلو، بيكاسو، كاسترو، مارادونا، ميسّى، الأمير وليم، توم كروز، آرم سترونج، بيل جيتس، ومعظم رؤساء أمريكا، وغيرهم»، من العُسر. ولذلك لا عجب أن تُعلن منظمة Mensa، التى تضمُّ أذكياء العالم، أن معظم العُسر ذوو نسب ذكاء مرتفعة.ومثلما اشتُقَّت مفردةُ «أعسَر» من «العُسْر»، نقيض «اليُسْر»، نجد فى الإنجليزية مترادفات الأعسر left-handed، تحمل دلالاتٍ سلبيةً. منها sinistral المشتقة من الجِذر sin (خطيئة)، كأنما الأشول خطّاءٌ!.
وفى العبرية وبعض اللغات السامية واللهجات القديمة لبلاد ما بين النهرين كانت «اليدُ» ترمز للقوة والسيادة، وبالتالى ترمز «اليدُ اليسرى» لسلطة الاعتقال الغاشمة، وكذلك سوء الطالع والنحس، ومسّ من غضب الآلهة!، كذلك فى عديد اللغات الأوروبية، مثل الإنجليزية والهولندية والألمانية والفرنسية والإسبانية والبرتغالية، نجد مفردة «يمين» right لا تحملُ وحسب معنى السَّواء والصَّلاح والصِّحة (عكس الخطأ)، بل أيضًا معنى «الحق والعدالة». وتاريخيًّا، أنْ تكون «أيمنَ» فذلك يعنى أنك ماهرٌ. لأن الجذر اللاتينى dexter يعنى «أيمن» ويعنى «ماهر» فى آنٍ. وفى الأيرلندية deas تعنى «يمين» وتعنى «لطيف» أو «جميل». وفى المقابل كلمة gauche بالفرنسية تعنى «يسار» وتعنى «أخرق».
والأمر ذاته فى الهولندية والبرتغالية: (له يدان يُسراوان) يعنى أنه (أبْلَه). وفى الإنجليزية: (ذو قدمين يسراوين) يعنى فاشل فى الرقص. والحقُّ أننى وقعتُ على ما لا يُحصى من تعبيرات لليد اليسرى فى لغات أوروبا وجنوب آسيا، تصبُّ جميعها فى النهر السلبىّ!. وبالطبع لا ننسى المُحمّل السياسى فى كلمتَى: (اليمين، اليسار). وهكذا يا جميلتى «مروة»، مأساتُنا ليست فقط مع الأدوات «العنصرية» التى نعانى عند استخدامها، ولكن لدينا أزمة تاريخية مع المُحمّل المعرفى السيئ لمستخدمى اليد اليسرى، فنحن بالفعل «غلابة»!. أما أنت يا أبى، أيها العظيمُ يا رحمكَ اللهُ، فأقولُ لكَ إننى دفعتُ الثمنَ الباهظَ مقابلَ المبادئ التى علمتنيها فى طفولتى. فأنْ تُحبَّ «جميعَ» الناس، يعنى أنْ يحاربَكَ «معظمُ» الناس!.. ومع هذا «الدينُ لله، والوطنُ لمن يحبُّ الوطن».
نقلا عن المصرى اليوم