بقلم: أحمد صبح
عندما حكم اللورد كرومر "مصر" على نحو منفرد من عام 1883 م إلى عام 1907 م، عقد مقارنة في مؤلفه الضخم "من تاريخ مصر الحديث" بين العقل الشرقي والعقل الغربي، فقال: "إن الافتقار إلى الدقة وهو ما يؤدي بسهولة إلى عدم الصدق، هي في حقيقة الأمر الخاصية الأساسية للعقل الشرقي، إن العقل الشرقي مثله مثل شوارعه المليئة، يعوزها التناسق، وأسلوبه في الاستنتاج يعتمد على الوصف المتسم بالإهمال". وإذا كانت العقلية الشرقية بهذا الوصف، وقد صعدت الأصولية الإسلامية في العالم السني، والذي يزخر في غالبية تاريخه بأن الإسلام دعوة لتمكين المستضعفين في الأرض، ولا ينبغي لأي مسلم التشكيك فيما إذا كان شخص ما مسلمًا صالحًا وكان هناك في العصور الوسطى تفاهم غير رسمي بوجود سلطة الحكم في مثل هذه الأمور، غير أن المفكرين الأصوليين من أمثال مولانا المودودي وسيد قطب وأتباعها، وبعض السلفية أصدروا أحكامًا مدوية- وبصفة مستمرة- حول ما إذا كان القوم مسلمين صالحين أم لا، وأقدموا في واقع الأمر على تكفير من لا يتفق إسلامهم مع ما يؤمنون به، وأثارت هذه العملية الرعب في ربوع العالم الإسلامي، وإذ بالزعماء لا يجرؤون على التعرض للموجة الصاعدة من المتأسلمين، كما يخشى المفكرون وصفوة المجتمع التحدث بصراحة ضد رجال دين يفسرون العقيدة على هواهم، فكانت المحصلة أن أصبح المسلمون المعتدلون يَعافون نقد أو فضح تعصب الأصوليين، الذين حولوا الإسلام إلى عقيدة صارمة ومتزمتة يضبطها رجال دين- أو مفوضو دين- ضيَّقوا الأفق، على الرغم من أن الدين الإسلامي مفعم وغني بالحياة التعددية والتيسير البالغ.
ولقد لعب النظام السعودي دورًا خطيرًا، عندما حاول إبعاد الاهتمام عن سجله الاقتصادي والسياسي، فأطلق أشد رجال الدين تطرفًا، آملًا في اكتساب الشرعية، حيث قام رجال الدين بإدارة العملية التعليمية ببيروقراطية دينية وبعقلية العصور الوسطى، وتم نشر العقيدة الوهابية عن طريق المدارس الممولة التي خرّجت الآلاف من المتعصبين أنصاف المتعلمين، الذين يتطلعون إلى العالم الحديث بريبة، وإلى غير المسلمين بتشكك كبير، ناشرين صيغة صارمة صحراوية من الإسلام النمطي الذي يتقولب فيه غالبية الأصوليين الإسلاميين حول العالم.
ولقد قُدِّر لي أن أستمع إلى حديث في أحد المساجد، وإن كانت مقولات صاحبه أثارت ردودًا من الأفعال المؤيدة والحذرة والساخطة، ولم يجد الواعظ المتحدث في كتاب الله أو سنة نبيّه موضوعًا يفيد سامعيه، ولم يستلفت أنظاره أية قضية ذات شأن في واقع العرب والمسلمين وما يحيقه بهم في الحاضر والمستقبل من المشرق إلى المغرب إلا قضية الشيعة والتجريح في معتقداتها طوال ساعة من الزمان.
كان مدخله إلى الحديث عن "سبيل المؤمنين" ومنه انتقل إلى مربع غير المؤمنين، ومن باب التغطية والتمويه شن هجومًا شديدًا على المتصوفة، جمع فيه الذين تعلَّقوا مخلصين بحب الله مع الذين تاجروا باسمه جل جلاله، ووضعهم في سلة واحدة، ثم أخرجهم من الإسلام، وقذف بهم في مربع المشركين في جولة استعراضية سريعة لم تستغرق ثلاث دقائق، وإن ألحق بهم الفلاسفة والمتكلمة في الثواني الأخيرة، بعد أن هدأت نفسه وتحقق من أن كلماته ألقت بهؤلاء وهؤلاء في الدرك الأسفل من النار واطمأن ضميره إلى أنه أغلق أبواب جهنم على الجميع، استدار وأشهَرَ سيفه في وجه الشيعة الاثنى عشرية أو الجعفرية.
وكان أخطر ما قاله- غفر الله له- إنه صنفهم جملة مع الرافضة والباطنية، وإنهم يكفرون أهل السنة جميعًا من الخليفة الأول "أبي بكر" رضي الله عنه إلى شيخه الهمام الذي لا أعرفه.
وبعد أن أدى مهمته في الإساءة والتجريح على خير وجه، تساءل أمام الحاضرين: ما العمل؟
ثم رد بصوت المبشِّر الذي يريد أن ينجِّي سامعيه من الدنس والأرجاس: "يجب علينا أن نعاديهم لأننا بذلك نعادي الشرك، ويجب أن نمتنع عن موالاتهم وودهم لأن ذلك يخالف أركان الإيمان، التي تمنع المؤمنين من موالاة المشركين، ويجب أن نتعلم البغض في الله كما يجب أن نحرص على الحب في الله"!!
بهذه الوصفة الناجعة بصّر الرجل سامعيه بما يجب أن يفعلوا، ونثر في العقول والأعماق جرعة لا بأس بها من السم باسم البغض في الله!
وفي هذا المسار مضى الحوار الذي جرى بعد الحديث، وكان إطاره يدور في فلك المقولات التي يُضرب بها المثل في التعصب المذهبي إبان عصور الانحطاط، عندما سُئل بعض المتعصبين من الشافعية عن حكم طعام وقعت فيه قطرة من نبيذ؟ فقال: يُرمى لكلب أو حنفي. وسُئل متعصب آخر بنفس الحالة العقلية: هل يجوز للحنفي أن يتزوج من شافعية؟ فرد الهمام: لا يجوز لأنها يُشك في إيمانها، فيما اجتهد آخر وقال: يجوز أن يتزوج بها قياسًا على الكتابية.. إن أقل ما يُقال عن هذا الواعظ إنه متآمر أو ضالع في المؤامرة على الوطن والمسلمين.
وأيًا كانت نيته وقصده، فكلماته تشكِّل جريمة مكتملة الأركان، المجني عليه فيها ليس الشيعة فقط كما قد يتوهَّم البعض، وإنما السنة والشيعة في آن واحد؛ ذلك أن الرجل لم يقدم موعظة في الحقيقة، وإنما غرس في صحن المسجد بذرة خبيثة لشجرة لا تثمر إلى المر، وأطلق من حيث لا يدري- أو يدري- قنبلة جرثومية من تلك التي ينبغي أن تحرم فكريًا، بل زرع في كل بيت بَلَغَه صوتُه أو عاد إليه رجل من مستمعيه، لغمًا موقوتًا وقاتلًا يعلم الله متى ينفجر وكم عدد ضحاياه.
وكان ظني أنها سقطة واعظ أساء الاختيار والأسلوب والهدف والتوقيت، لكن توالي الحلقات أعطى المسألة بُعدًا آخر يرجِّح أن القضية أكبر وأخطر، وأن هذه السقطة ليست إلا حلقة في مسلسل يريد بنا شرًا، ولقد اكتشفت أن البذور الخبيثة والألغام الموقوتة تُزرع في مواضع عديدة من الجسد العربي حتى لا تُسفر العملية فقط عن إصابة أوعاهة، ولكن لكي يكون التفجير محكمًا وشاملًا، وكم من كتب تُنشر بالمجان وهي ضخمة في عدد صفحاتها وفخمة في طباعتها، ويحمل مؤلفها لقب دكتور مثل كتاب "وجاء دور المجوس"، والذي يزرع فيه مؤلفه أشجارًا من المربين "السنة والشيعة"، ويقيم بكلماته العديد من الحواجز والسدود، ثم يصدر حكمه الحاكم- والذي استخلصه واعظنا الهمام في درسه في المسجد- "إن إمكانية الالتقاء بهم غير ممكنة" والتي تعني في الحقيقة حذف مئات الملايين من الشيعة في ست كلمات، ولا أريد الخوض أكثر من ذلك، فهو لم يخرج عن الدور الذي تقوم به الفضائيات الموجَّهة في هذه الأيام، وهذه الأمور غير مستغربة عندما يرخص الكلام ويستغفل الناس، ويتصور بعض حملة الأقلام أنهم يخاطبون جماعة من البلهاء والمتخلفين عقليًا، ورغم المنهج الاستفزازي لهذه الكتب، فإن نشرها في معظم البلاد السنية يتم على نطاق واسع، فهذا كتاب ضخم يوزَّع بالمجان أيضًا وعنوانه "الصراع بين الإسلام والوثنية"، ومشترو الكتب يعلمون كم يكون باهظًا سعر كتاب بهذا الحجم، ولابد أن يستريبوا قبل غيرهم في ملابسات نشره ودوافعها، ولن أخوض في تفصيلات هذه الكتب الصفراء، التي تفكك الأمة وتنتقد معتقدات الشيعة، والتي يخلص كتابها إلى عدم الالتقاء بين السنة والشيعة.
هل هي مصادفة أن تهب تلك الريح الخبيثة في مختلف الاتجاهات في وقت واحد ولهدف واحد؟ وهل يمكن أن نحسن الظن بمصدر تلك الريح ودوافعها؟ ثم ألا يعني ذلك الذي يجري وغيره مما لا نعرفه، أن ثمة شرًا مستطيرًا يُراد لهذه الأمة ويتهددها إذا لم نحاصر النار ونخمد منابعها بأسرع ما يمكن؟
أيها الناس، لماذا نتجاهل حقيقة أن الأجيال الحاضرة من أبناء الأمة لم يكن لها ذنب في الصراعات المذهبية التي حدثت في الماضي، ولذا لا يمكن أن نورثها أحقاد الماضي القريب والبعيد، بل علينا أن نهييء مناخًا نتنفس فيه نسائم التسامح، بدلًا من أن نثقل كاهلنا بميراث نزاعات وصراعات قديمة آن لها أن تأخذ طريقها إلى متاحف التاريخ. إن أجيالنا خلقها الله لأزمان غير أزمان الماضي، فعلينا أن نسهم في بناء الأمة في ظل مناخ لا تسوده العصبية بين المذاهب ولا الأديان، إنما نحن في القرن الواحد والعشرين بمنطِقِه الملزم لحقوق الإنسان والمساواة.