كلّما خبا ضوء الجماعة وسط الأحداث المتسارعة، وتعرضت لهزائم منكرة متتالية، ومرّ الوقت على المسجونين، وظلّ التنظيم بعيداً عن مشهد العمل السياسي الرسمي، منذ 7 أعوام مضت، يخترق حديث المصالحة بين النظام المصري والإخوان دائماً أجواء الصمت، وكأنّ هناك من يقصد إثارة هذا الأمر، للبحث عن مخرج قبل أن تفقد الجماعة الفرصة الأخيرة لها في الحياة.
مؤخراً، وعقب رسالة مسرَّبة وقّعها أكثر من 1300 سجين إخواني، دعوا فيها التنظيم للتراجع خطوات للوراء، عاد الحديث مجدداً عن المصالحة، وطرح كلّ فريق تصوّره، وما بين مستنكر ورافض، ظلت الذهنية الإخوانية ثابتة على مفهوم خاص لهذا الأمر، وهو: توفيق أوضاع الجماعة الحريصة على ألا تخرج منها دعوات للتراجع، وقبول وجودها مرة أخرى.
المصالحة والرسالة المسرّبة
من سجن الفيوم، الذي يبعد عن القاهرة مئات الكيلو مترات، أطلق شباب الإخوان رسالة، منذ عامين، لم تأخذ حظّها في الإعلام، دعوا فيها الجماعة للتراجع خطوات للوراء، وقالوا فيها: "نحن مجموعة من السجناء السياسيين اتّخذنا قرارنا بالاستقلال عن القرار السياسي لجماعة الإخوان، منّا من لم يكن ينتمي لها تنظيمياً، وكان يدور في فلك قرارها، ومنا من كان ينتمي للإخوان تنظيمياً، ثمّ اتّخذ قراره بإنهاء هذا الرابط التنظيمي؛ لقد مرّت مصر في الأعوام الأخيرة بأحداث جسام وحالة استقطاب حادة وصراع مرير، وقد خاطبنا في ذلك الصدد جماعة الإخوان على مدار أكثر من عام، دون استجابة تذكر؛ حيث أصرّت على الاستمرار بالعمل وفق المواقف والأفكار ذاتها، فكان لزاماً علينا أن نعيد نحن تقييم هذه المواقف والأفكار".
تطمح الجماعة عبر المصالحة لإدماج الإخوان في العملية السياسية والإفراج عن قادتهم وتشكيل لجنة للتواصل بين الجماعة والنظام
أحد من كتبوا هذه الرسالة؛ هو عمرو عبد الحافظ، محبوس احتياطياً بسجن الفيوم العمومي، منذ 46 شهراً في القضية رقم 1747 جنايات الفيوم، وهو حاصل على ليسانس آداب، وكان عضواً مؤسساً بحزب الحرية والعدالة، استفاد من السماح له باستخدام الهاتف ومواقع التواصل، وقال لـ "حفريات": إنّهم نظموا ورش عمل ومنتديات فكرية وسياسية لبحث الأمر، وقسموا مراجعاتهم إلى محورين رئيسَين: محور المواقف السياسية للجماعة، ومحور المنطلقات الفكرية التي يتبناها التنظيم منذ تأسيسه، عام 1928، وبعد اكتمال المراجعات اتجهوا في خطين متوازيين:
الأوّل: تدوين نتائج هذه المراجعات في مقالات وكتب؛ وقد نشروا في ذلك عدداً من المقالات، كما أنجزوا الكتاب الأول، وهو "الخروج من سجن الجماعة"، وفي طريقهم لإنجاز الثاني، وهو كتاب "الصدمة".
والخط الثاني: هو نشر هذه الأفكار بين السجناء السياسيين بسجن الفيوم العمومي، حتى تشكّل بمرور الوقت رأي عام بين السجناء يؤيد نتائج هذه المراجعات.
هنا تمّ الإعلان عن وجود مجموعة من السجناء المستقلين بسجن الفيوم، في بيان صدر يوم 10 تموز (يوليو) 2017، وتضمن إعلان استقلالهم عن جماعة الإخوان وأنهم لم يعودوا جزءاً من الصراع بين الإخوان ومؤسسات الدولة.
يحكي عبدالحفيظ لـ "حفريات"؛ أنّ إرهاصات المراجعات الفكرية بدأت بسجن الفيوم العمومي، قبل عامين، حينما طلب بعض شباب الإخوان من قيادات الإخوان بالسجن، عمل ورش عمل للنقد الذاتي تتمّ فيها مراجعة مواقف الجماعة السياسية، منذ أحداث 25 كانون الثاني (يناير) 2011، وحتى اللحظة؛ للوقوف على الأخطاء التي أوصلت الجماعة إلى ما هي فيه، من سجون ومطاردة وتشريد، وأوصلت مصر إلى ما تعانيه من تبعات الصراع السياسي، لكنّ قيادة الجماعة بالسجن رفضت ذلك، وأصرّت على خطاب المظلومية وتبرئة نفسها من أية مسؤولية أو خطأ، بعدها قرّر الشباب أن يخوضوا تجربة المراجعة بأنفسهم، فتداولوا فيما بينهم كتباً تعين على المهمة.
في يوم 20 آب (أغسطس)، بعد عام تقريباً، تجددت رسائل شباب الإخوان؛ حيث أرسل 1350 من عناصر الجماعة في السجون المصرية رسالة إلى المسؤولين في الدولة "يطلبون العفو، معلنين رغبتهم في مراجعة أفكارهم التي اعتنقوها خلال انضمامهم للجماعة، ومعربين عن استعدادهم التام للتخلي عنها، وعن العنف وعن ولائهم للجماعة وقياداتها"، إلا أنّ هذه الرسالة واجهها الإخوان بكلّ قوة، وخرج إبراهيم منير على شاشة "الجزيرة"، في اليوم التالي، وقال: "إنّهم لم يُدخلوا أحداً السجون، وإنّ كلّ شاب مسؤول عن نفسه!"، فيما ادّعى طلعت فهمي، المتحدّث باسم الجماعة، أنّها رسالة أمنية، وليست من شباب الجماعة.
ورغم نكران قيادات الجماعة، وتخليهم عن شبابهم، إلّا أنّ الرسالة السابقة أحدثت صدى كبيراً؛ ما بين مصدِّق لهذه المساومة، ومنكرٍ لها من الأساس.
معنى المصالحة؟
رأى البعض أنّ معنى المصالحة المقصود هو المراجعة لكلّ الأخطاء والاعتراف بكل وضوح بذلك، وهنا تبقى الدولة هي المحتضنة فيما بعد للمخطئين، وآخرون يرون أنّ المصالحة هي حلّ التنظيم جملة وتفصيلاً، الصلح بغضّ النظر عمّا يتنازل به فريق لآخر، وهنا تبدو الدولة في حالة يرثى لها، فهي ضعيفة ومضطرة للقبول بشروط جماعة، وهنا يقول د. ناجح إبراهيم عبد الله، القائد التاريخي للجماعة الإسلامية، التي قامت بمراجعات في السجون المصرية، بدأت عام 2001؛ أنّ المقصود بالمصالحة هو الصلح، الصلح هو أعظم آلية شرعها الإسلام لرأب الصدع ولمّ الشمل، وهو أعظم الآليات لإنهاء الأزمات بين المسلمين، ولولا وجود هذه الآلية لكان أيّ نزاع مسلَّح بين طائفتين مسلمتين يستمر للنهاية أو يستمر حتى يفنى الفريقان، وإنّ الصلح باب عظيم من أبواب الخير، شرّعه الله لتُحقن به الدماء، وتعصم به الأرواح، وهو خير للفريقين، لكلّ الناس، وهو يحتاج إلى رجال شجعان، مثل الحسن بن علي، وهؤلاء الأفذاذ هم الذين يتحملون لوم اللائمين ومزايدة الزائدين.
أما د. أحمد الشوربجي؛ فيرى أنّ المصالحة هي المراجعة بالضرورة، واعتذار تلك التنظيمات عما جرى، و"خلخلة" الجماعة للعنف واستنكارها له، واعتذارها عنه، والقبول بتطبيق القانون عليها، وليست فريقين يجلسان للتفاوض فيما بينهما.
الانصياع للدولة في العقل الإخواني معناه تصدّع التنظيم وتعرّض فكرة الجماعة للانطفاء وتعرّض القيادات للإجابة عن أسئلة المستقبل
يذهب الشوربجي بعيداً؛ فيرى أنّ المراجعة هي الخطوة الأولى في حلّ هذه التنظيمات، التي لا قبول لوجودها مطلقاً في أيّة دولة.
يوافقه الرأي القيادي الإخواني المنشق، طارق البشبيشي؛ حيث يرى ضرورة ووجوب حلّ كلّ التنظيمات، إذا كانت تريد المصالحة بالفعل، ويقول: عندما كنا في التنظيم كانت القيادات الإخوانية تقول لنا إنّنا نسعى لأن يتحوّل ملفنا من أمني إلى سياسي، ونتمنى أن نرى أخبار الجماعة تتداول في صفحات السياسة، لا في الحوادث؛ هذا ما سعوا إليه قديماً، ويسعون إليه الآن بمبادرات التصالح المزعومة بعدما انهارت قواهم وحرقت جميع أوراقهم: "الحصار الاقتصادي، عزل مصر في الخارج، تحريض الشعب على الثورة، الإرهاب"؛ التي لعبوا بها لإسقاط الدولة وتحويلها لأكوام من تراب.
أما ما يطلق عليها المصالحة؛ فلها مفهوم مختلف لدى الإخوان؛ حيث ترى الجماعة، وفق المبادرات التي طرحها جمال حشمت، وحمزة زوبع، وغيرهما من قيادات الجماعة، إدماج الإخوان في العملية السياسية، والإفراج عن قادة الجماعة، وتشكيل لجنة تختار وسيطاً محايداً للتواصل بين الجماعة والنظام، لتحقيق أهداف عدة، منها تشكيل لجنة تقصي حقائق لكلّ أحداث العنف، منذ "ثورة 25 يناير".
مع الصلح أم المصالحة؟
يقول الكاتب المقرَّب من النظام المصري، ياسر رزق: طوال فترة الرئاسة الأولى للرئيس، عبد الفتاح السيسي، توارى الحديث عن "المصالحة"، إلّا من بعض مقالات في صحف أو كتابات على مواقع التواصل لشخصيات غافلة أو غربت عنها الشمس، وكلّما تردّدت كلمة "مصالحة"، كان الرأي العام يتساءل: "بين مَن ومَن؟ وكيف نضع جماعة إرهابية على قدم المساواة مع الدولة في مقايضة سياسية؟!"، وصارت تلك الكلمة سيئة السمعة جماهيرياً، لا سيما مع اشتداد العمليات الإرهابية التي تشنّها مجموعات تابعة للإخوان في الوادي، أو جماعات ترعرعت في كنف الجماعة بسيناء، غير أنّه، في أوقات مختارة بعناية، كنا نطالع أو نشاهد أحاديث من جانب شخصيات إخوانية، مثل القيادي العتيق يوسف ندا، أو القيادي إبراهيم منير، نائب المرشد ومسؤول التنظيم الدولي، وكان محور تلك الأحاديث؛ إما إبداء الاستعداد لـ "التوسّط" في مصالحة، أو طرح أفكار لها، هي في مجملها المطالب نفسها، الخاصة بالإفراج عن الإخوان السجناء، وعلى رأسهم قيادات الجماعة، ولم تلقَ تلك الكتابات أو الأحاديث عن المصالحة أدنى اهتمام من جانب السلطة، غير أنّ الفضائيات والصحف العامة والخاصة، في معظمها، قابلتها بقصف إعلامي عنيف.
كان هدف الإخوان طوال فترة الرئاسة الأولى للسيسي، أن يفشل نظامه في تحقيق وعوده للشعب، وبعدما نجح في انتخابات الرئاسة لفترة ثانية، اتخذ الإخوان نهجاً جديداً، له شكل مختلف ومحتوى آخر، وطرحوا مبادرات المصالحة، مثل مبادرة كمال الهلباوي، القيادي الإخواني، التي تبناها إبراهيم منير، القيادي الدولي، والمبادرة التي تمّ إطلاقها في مطلع آب (أغسطس) 2018، على يد معصوم مرزوق.
كما في الذكرى الخامسة لفضّ اعتصامَي رابعة والنهضة؛ حيث صدر بيان عن جماعة الإخوان يتضمن ما وصفته بأنّه مبادرة لـ "الخروج من النفق المظلم"، تدعو إلى عودة الرئيس الإخواني الراحل محمد مرسي إلى سدة الحكم وإجراء حوار وطني!
وفي إحصائية قام بها الموقع الإخواني "رصد"؛ بلغت هذه المبادرات 11 دعوة للمصالحة، قام بها قياديون ومقربون من الجماعة، مثل: البرادعي، وزياد بهاء الدين، وتحالف دعم الشرعية، مبادرة السفير إبراهيم يسري، ومبادرة الداعية محمد حسان، ومبادرة الدكتور أبو المجد، في تشرين الأول (أكتوبر) 2013، وكان ردّ النظام المصري واضحاً، وهو: "قرار المصالحة في يد الشعب".
وفي ظلّ العلاقات المتشابكة بين النظام المصري والإخوان في أعوام كثيرة مرّت، كانت ما بين الحصار والاحتواء والاستخدام، لم يحدث مرة أن تفاوضا وجهاً لوجه، ولم ينصع النظام يوماً للعقل الإخواني، وإن أطلق له، لظروف سياسية، المجال، وهذا يبدو واضحاً في سجون ناصر، ثم السجون عقب اغتيال الرئيس الأسبق أنور السادات، ثم في عهد مبارك؛ حيث كانت المكاتب الأمنية هي المنوط بها ضبط هذه العلاقة.
الموافقة على الجلوس على مائدة المفاوضات، في نظر محللين، هي من رابع المستحيلات، وهذا ما تراه باقي القوى السياسية؛ من أنّ الموافقة على هذه الشروط وإعادة دمج الإخوان في المشهد السياسي جريمة عظمى وركوع لمصر أمام الإرهاب، وأنّ المبادرات ودعوات المصالحات التي تخرج من تحالف دعم الإخوان هي متخبطة ومتأخرة لتوفيق أوضاع الجماعة.
ويوضح تصريح سابق للناطق الرئاسي؛ أنّ "الدولة لن تقبل بأيّة مبادرات للصلح مع الإخوان"، قائلاً: "كيف نقبل التصالح و"الإرهابية" تقتل المواطنين الأبرياء؟ لا مصالحة مع الإرهاب".
الحلّ الأخير
يرى أحد القياديين الأمنيين المعنيين بملف جماعة الإخوان (رفض ذكر اسمه)؛ أنّ الإخوان في النهاية مصريون، وأنّهم لن يبقوا طوال حياتهم بالسجون، وأنّ الدولة لها خطط واضحة، أهمّها فصل التائبين عن غيرهم، ومراجعة مواقف المسجونين كلّ فترة، وفي النهاية سيتمّ الإفراج عن غير المتورطين في العنف، وغير المحكومين بقضايا، وفق التحقيقات التي تجري معهم بشكل دوري، أما غير ذلك فهو مرفوض.
ووفق قوله؛ فإنّ أيّة محاولة للحوار مع الدولة، بغير ما سبق، هي إملاء، أما تصحيح المفاهيم، واستشعار عدم مشروعية أفعال التنظيم، فهما الطريق الأوحد للمصالحة، التي لها طريق معروف لدى الدولة، وهو "خلخلة" الجماعة للعنف واستنكارها له، واعتذارها عنه، والقبول بتطبيق القانون عليها، وبعدها ستخرج الجماعة تنظيمياً وفكرياً وسياسياً من هذه الأوضاع الغريبة، والدولة تحاول الوصول بجماعة الإخوان إلى النهاية الطبيعية التي انتهت بأشباهها، من ممارسي العنف، في التسعينيات، وهي الاعتذار.
في المقابل؛ فإنّ الانصياع للدولة في العقل الإخواني معناه تصدّع التنظيم، وتعرّض فكرة الجماعة للانطفاء، وتعرّض القيادات للإجابة عن أسئلة المستقبل، مثل: موقعهم من الدولة الوطنية، ولماذا كانوا في قصر الاتحادية ثم ذهبوا لميدان رابعة؟ ...إلخ، لذا فهم يراهنون على عامل الزمن، وسقوط النظام بفعل أيّة أزمة، سياسية أو اقتصادية، لكن مع مرور الوقت، ترى الجماعة أنّها هي التي في الأزمة الحقيقية، وسرعان ما تبحث عن حلّ جديد، ولا تجد سوى طريقين: الأول؛ هو الضغط على النظام بمجموعات حسم الإرهابية، والثاني؛ إطلاق مبادرة جديدة للمصالحة عقب حوادث العنف المنظمة، وهكذا تسير الأمور دون حلّ واضح من الجماعة، التي لديها "عمى إستراتيجي" كما يصفها مراقبون.
نقلا عن حفريات