الأنبا إرميا
تحدثنا فى المقالة السابقة عن الخليفة «القادر بالله»: الذى حكم «الدولة العباسية» قرابة أربعة عُقود، واتسم عهده الطويل بظهور دويلات فى بُلدان عدة، إلا أنه تمكن من استعادة بعض من نفوذ الخلفاء وسلطاتهم التى فُقدت فى العهود السابقة، وشهِدت «مِصر» إبان خلافته حكم كل من: «العزيز بالله» ومن بعده ابنه «أبو علىّ منصور» الملقب بـ«الحاكم بأمر الله».
«الحاكم بأمر الله» (386- 411هـ) (996-1021م)
الثالث فى خلفاء الدولة الفاطمية على مصر والسادس فى سلسلة الخلفاء الفاطميين، «أبو علىّ منصور» الملقب بـ«الحاكم بأمر الله»، وهو أول الخلفاء الذين وُلدوا بـ«مِصر». تولى عهد الخلافة من قِبل أبيه «العزيز بالله» عام 383هـ (993م)، ثم بويع بالخلافة من بعد موته عام 386هـ (996م). تعددت آراء المؤرخين فى عمره وقت بَيعته الخلافة: فقيل إنه كان قد تخطى العاشرة ببضعة أشهر، وذكر آخرون أنه كان يبلغ الحادية عشْرة والنصف، وقيل غير ذٰلك. وقد ذكر المؤرخون أن حكمه اتسم بكثير من التوتر إذ كان دائم الخلاف مع حكام «الدولة العباسية»؛ حيث أصدرت الخلافة العباسية مرسومًا عام 1011م يُعلن عدم انتسابه إلى سلالة الخليفة «علىّ بن أبى طالب»؛ إلى جانب صراعه الطويل مع «القرامطة». وتُعد شخصية «الحاكم بأمر الله» وحكمه من أكثر النقاط جدلاً وغموضًا بين الكُتاب والمؤرخين على مر التاريخ.
بداية حكمه
بُويع «الحاكم بأمر الله» الخلافة صغيرًا؛ ما أثار أطماع الآخرين فى السيطرة على أمور الحكم فى «مِصر»؛ فقد أجبر «الحسن بن عمار» شيخ «كُتامة» الحاكم أن يوليه شُؤون الدولة ليصبح هو صاحب الرأى الأول والسلطة فى إدارة أمورها ولُقب بـ«أمين الدولة»؛ فيذكر «ابن الأثير» أن «العزيز بالله» عهِد بالخلافة لابنه، ثم أوصى كبير خدمه «أَرْجَوان» (أو «بَرْجَوان») بتدبير دولة «الحاكم بأمر الله» حيث إنه لم يزل صغيرًا؛ فقام بذٰلك الأمر بعد وفاة «العزيز» فبايع «الحاكم بأمر الله» بالحكم يوم موت أبيه، آخذًا له البَيعة من الناس؛ ويستكمل «ابن الأثير»: «وتقدم «الحسن بن عمار» شيخ «كُتامة» وسيدها، وحكم فى دولته، واستولى عليها وتلقب بـ«أمين الدولة»... فأشار عليه ثِقاته (من هم موضع ثقته) بقتل الحاكم، وقالوا: لا حاجة (بنا) إلى من يتعبَّدنا (يتخذنا عبيدًا أو يطالبنا بطاعته)؛ فلم يفعل احتقارًا له واستصغارًا لسنه...»؛ وهكذا صار «الحاكم بأمر الله» بين رحى الواصيَين على حكمه «أَرْجَوان» و«الحسن بن عمار» حتى اشتد الصراع بينهما وانتهى بغلبة الأول وهروب الثانى.
حكمه فعليًّا
ظل الحكم الفعلىّ فى مِصر لـ«أَرْجَوان» إلى أن بلغ «الحاكم بأمر الله» الخامسة عشْرة إذ أمر بقتل الواصيَين عليه منفردًا بالسلطة وحده ليبدأ حكمه الفعلىّ على البلاد. وقد شهِد عصره الممتد قرابة ربع قرن سفك دماء كثيرة حتى قيل ثمانية عشَر ألفًا تقريبًا!! فيذكر «ابن الأثير»: «ونصح («أَرْجَوان») الحاكم وبالغ فى ذٰلك ولازم خدمته فثقل مكانه على الحاكم؛ فقتله سنة تسع وثمانين (بعد المائة الثالثة من الهجرة)... ثم إن الحاكم رتب «الحسين بن جوهر» موضع «أَرْجَوان» ولقبه «قائد القواد»؛ ثم قتل «الحسين بن عمار» المقدم ذكره، ثم قتل «الحسين بن جوهر»، ولم يزل يقيم الوزير بعد الوزير ويقتلهم!!». وذكر عنه «الحافظ أبو عبد الله الذهبىّ» أنه كان: «سفاكًا للدماء، قتل عددًا كبيرًا من كبراء دولته صُِبرًا (جُزافًا).»؛ وقال فى ذٰلك العلّامة «أبو المظفر بن قِزأوغلي»: «وقتل من العلماء والكتاب والأماثل (الأفاضل) ما لا يُحصى».
أما عن حكمه، فقد كان... والحديث فى «مِصر الحلوة» لا ينتهى!
* الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى
نقلا عن المصرى اليوم