فاطمة ناعوت
زى النهارده، رحلت أمى عن هذا العالم. تركتنى وطارت ويدى مازالت معلّقةً فى طرف ثوبها. فى ذكرى أبى الشهر الماضى، كتبتُ رثاء مع صور بالأبيض والأسود لأبى واقفًا جوار أمى تجلسُ فى أناقة تحملنى فوق ذراعيها رضيعةً فى الشهر السادس من عمرى. كتب الأصدقاءُ آلاف التعليقات الطيبة. ولفت نظرى إجماع التعليقات على أناقة أبى وأمى، وجمال ملامحهما، شأن جميع الآباء والأمهات فى ستينيات القرن الماضى.
الصورُ بعدسة المصوّر الأرمنّى العالمى «ڤان ليو» Van Leo، الذى اشتُهر باللعب بدرجات الظلال وومضات الضوء. وهو صاحب أشهر صورة لعميد الأدب العربى د. طه حسين، حيث يختفى نصفُ وجهه تحت طبقات الظلال، ويشرق النصفُ الآخر بأشعة الوهج.
كان أبى رجلاً وسيمًا، وكانت أمى سيدة جميلة راقية الملامح. وراحت عيونُ القرّاء تُفتِّشُ فى جنبات الصور عن مصر الجميلة، التى ذهبت ولم تعد، تاركةً من بقايا جمالِها شذراتٍ خافتة نلهجُ إليها فى أفلامنا القديمة: بالأبيض والأسود.
من بين المعلقين الرسّامُ المصرى البريطانى «حمدى سليمان». الذى رسم لى أحد أجمل البورتريهات بريشة المدرسة «التنقيطية» Pointillism ابنة المدرسة التأثيرية، التى يعتمد تكنيكها على ضربات الفرشاة الملوّنة فيتكون نسيجُ اللوحة من قطرات اللون والضوء. كتب معلّقًا على صورة أبى: (أحببته من ملامح وجهه. لسبب لا أفهمه، أشعر أن ملامح الوجه، المتناسقة تلك، بدأت تختفى من مصر! هل الحياة اليومية تشكل ملامحنا؟) صدمنى السؤال! لم أفكّر من قبل أن ملامح وجوه الناس تتبدّل مع الزمن جيلاً بعد جيل، بسبب ما يسمعون وما يشاهدون فى الطرقات وما يتعرضون له من ضغوط مجتمعية. تتبدّل الملابسُ وفق الموضات بين عصر وعصر، ولكن: هل تتبدّل الملامحُ والقسمات الجسدية أيضًا؟! ولمَ لا؟! أليس الإنسانُ مرآةً عاكسة لما حوله؟
وربما يفسّر هذا ظاهرة أن معظم آبائنا وأمهاتنا وأجدادنا كانوا يشبهون جمهور حفلات أم كلثوم. كان المصريون آنذاك يُصدمون من ورقة مُلقاة فى الطريق. كانت السيداتُ يسرن فى شوارع نظيفة بفساتين شانيل وكعوب عالية، دون خوف من تحرش أو بذاءة. كان آباؤنا وسيمين وكانت أمهاتُنا جميلات، لأن المجتمع كان وسيمًا وجميلا.
فى صالون بيتى، صورةٌ بالأبيض والأسود لأمى فى ثوب الزفاف، بتوقيع Van Leo. وكانت مفتونة بالفنانة فاتن حمامة، مثل معظم بنات جيلها. حتى أنها أسمتنى «فاتن»، وبقيتُ بذاك الاسم شهورًا، حتى عادت جدتى من رحلة كانت ترافق فيها جدى، المهندس المعمارى الذى كان يعمل بالخليج. وحين غاضبتْ جدتى أمى لأنها لم تُسمّ طفلتها على اسمها: «فاطمة»، غيروا اسمى، وظلت أمى حزينة لأنها «خانت» فاتن حمامة!
كانت أمى تُفصّل فساتينها من كتالوج أفلام فاتن حمامة. وفى عرسها، طلبت من الخياطة اليونانية تصميم ثوب الزفاف مشابهًا لثوب زفاف فاتن حمامة فى فيلم «سيدة القصر»، وأمام عدسة «ڤان ليو»، جلست العروس الجميلة: «سهير»، التى ستغدو أمى، نفس جلسة فاتن حمامة فى صورة عُرسها بالفيلم.
لهذا نحبُّ أفلام زمان، الأبيض والأسود. حيث الفساتين جميلة، رقيقة، تلبسها البنات فيشبهن الفراشات، كأنهن باليرينات رشيقات لا يمسسن الأرض بأقدامهن، بل يطرن ويكدن يلمسن السماءَ بأطراف أناملهن. وحيث البشر راقون، والألسن نظيفة لا تعرف إلا المعاجم المهذبة، والبنايات منظمة منسّقة، والشجر كثيف أخضر يرمى بظلاله على شوارع نظيفة مرتبة، التماثيل فى الشوارع مغسولة مصقولة، الرجال أنيقون مهذبون، والسيدات فاتنات يحملن حقائبَ كأنها قطعٌ تشكيلية من الفن الرفيع. ورغم الملابس القصيرة، لم يكن هناك تحرش ولا بذاءة. كنت أتصفح ألبوم صور أمى القديم، فشاهدت صورة لها مع شقيقتها فى حديقة عامة. كانت أمى فى فستان ساحر بخصر ضيق وجيب واسعة كلوش وكولة رقيقة وبلا أكمام. سألتها: (مكنش حد بيعاكسك وانتِ خارجة كده يا ماما؟!) فتجهمت وقالت بحدّة: (مكنش فى قاموسنا كلمة اسمها «معاكسة». الشباب كان محترم ولا يرفع عينه فى وجوه البنات. كنا فى زمن برىء ونظيف. الكل يحترم الكل. والشاب يعتبر كل البنات السائرات فى الطرقات شقيقاته).
صدقتِ يا أمى، الفضيلةُ والتحضر واحترام المرأة ثقافةٌ وليست ملابسَ. الحجاب والنقاب ملأ جوانب مصر الآن، ومع هذا صُنّفت مصرُ فى المرتبة الثانية على مستوى العالم فى التحرش بالمرأة!! أما المرتبة الأولى فاحتلتها «أفغانستان»، التى تفرض النقاب الكامل على نسائها! الفضيلة فى الدماغ، لا فى طول الثوب وقصره. و«الدينُ لله، والوطنُ لمن يحبُّ الوطن».
نقلا عن المصرى اليوم