منى أبوسنة
عنوان هذا المقال يتضمن سؤالًا خفيًا، وهو على النحو الآتى: لماذا القول بأن ابن رشد والتنوير من شأنه أن يفضى إلى السلام فى الشرق الأوسط؟.
للجواب عن هذا السؤال يلزم التساؤل عن معنى التنوير والسلام. إذا قيل إن التنوير هو شرط مسبق لإقامة السلام فإن فلسفة ابن رشد تدور حول فكرة محورية مفادها التأويل.
وفكرة التأويل نشأت من القسمة الثنائية بين العامة بلغة العصر «الجماهير» وبين علماء الكلام، أو بلغة ابن رشد «الراسخون فى العلم» أو بلغة العصر «النخبة». والرأى عند ابن رشد أن العامة تقف عن المعنى الظاهر للنص الدينى أما الراسخون فى العلم فهم الذين يتجاوزون المعنى الظاهر إلى المعنى الباطن الذى لا يُفهم إلا بالتأويل. والتأويل عنده يعنى إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقيةـ أى الحسية ـ إلى الدلالة المجازية.
ثم يفصّل هذا المعنى على النحو الآتى: «فإن أدى النطر البرهانى إلى نحو ما من المعرفة بموجود ما فلا يخلو ذلك الموجود أن يكون قد سكت عنه المشرع أو نطق به. فإن كان مما سكت عنه فلا تعارض هناك وهو بمنزلة ما سكت عنه من الأحكام فاستنبطها الحكيم بالقياس الشرعى.
وإن كانت الشريعة نطقت به فلا يخلو ظاهر النطق أن يكون موافقًا لما أدى إليه البرهان فيه أو مخالفا. فإن كان موافقًا فلا قول هناك وإن كان مخالفًا طُلب هناك تأويله».
أما إذا قيل إن الاجماع هو شرط مسبق للتأويل فمعنى ذلك استحالة الوصول إلى اليقين الذى هو الغاية من الإجماع. ويفصّل ابن رشد هذا المعنى على النحو الآتى: «فى مسائل الشريعة ثمة معنى ظاهر ومعنى باطن.
والعامة تعرف طريقها إلى الله عن طريق السمع وليس عن طريق البرهان، ويترتب على ذلك أن يلتزم المؤمن بالمعنى الظاهر ليس إلا، ومن ثم يتجنب تأويل القرآن.
ومع ذلك فإن ابن رشد لم يتهم العامة بالهرطقة بسبب عدم فهمها للمعنى الباطن فى القرآن لأن ـ فى رأية ـ العامة لا ترتقى إلى فهم البرهان. ومع ذلك ليس من حق العامة اتهام الآخرين بالهرطقة أو الذين يطلق عليهم ابن رشد «الراسخون فس العلم» بسبب انشغالهم بالمعنى الباطن للنص القرآنى.
فيقول: «فإن غير أهل العلم من المؤمنين هم أهل الإيمان به لا من قبل البرهان، فإن كان هذا الإيمان الذى وصف به العلماء خاصًا بهم فيجب أن يكون بالبرهان، وإن كان بالبرهان فلا يكون إلا مع العلم بالتأويل لأن الله قد أخبر أن له تأويلًا». وفى هذا المعنى يتقدم أهل العلم على العامة فى فهم مسائل الشريعة، وبذلك يميز ابن رشد تمييزا حادًا بين حالتين:
فى الحالة الأولى تتقدم الشريعة على الفلسفة حيث العامة تكون فى الصدارة، وفى الحالة الثانية تتقدم الفلسفة على الشريعة لأنها تستعين بالتأويل فى فهم المعنى الباطن لأنه من اختصاص الراسخين فى العلم.
والنتيجة التى انتهى إليها ابن رشد فى شأن تقدم الفلسفة على الشريعة هى جوهر التنوير عند كانط فى مقالة المنشور فى عام ١٧٨٤ تحت عنوان «جواب عن سؤال: ما التنوير؟» قال فى مقدمة المقال «كن جريئًا فى إعمال عقلك» على أنه شعار التنوير.
ومما سبق يمكن أن ننتهى إلى النتيجة الآتية؛ أن إيجاد علاقة بين ابن رشد والتنوير من جهة والسلام من جهة أخرى، فإنها تكون علاقة عضوية بالضرورة لأن السلام لا يمكن أن يتحقق إلا بفضل العامة وليس بفضل النخبة، لأن السلام يعنى نفى الحرب، ونفى الحرب لا يعنى إلا نفى الدوجماطيقية، لأن الحرب تعنى نفى الآخر بالقوة وذلك بقتله بعد فشل القضاء علية بالعقل، وسواء كان النفى بالقتل أو بالعقل فإنه يشير إلى حقيقة مطلقة مغايرة يمتلكها الآخر ومن ثم يلزم القضاء عليه.
أما العامة فبفضل أنها محكومة بالدوجماطيقية بسبب رفضها للتأويل فإنها بالتالى مدفوعة إلى إشعال الحرب أو على الأقل الدعوة إليها.
والسؤال إذن: هل فى إمكان العامة أن ترتقى إلى مستوى النخبة إذا استنارت؟.