الانسان ذلك المعلوم
خواطر من حفل الجالية العربية على مسرح المتحف الحربى باثينا
الأب الدكتور أثناسيوس حنين
قال شاعر – زجال و صديق مبدع ولكن زهقان ’ ومثقف ضجران ومتدين حيران ’ يوما :
نفى نبطل نفتى دقيقة ..........ونبطل كذب وتأليف
ما بقاش فيه لا عيب ولا كخ ولا حدش للحق ينخ
كل الناس ما بقتش بريئة يعنى ما فيش ولا حد شريف
كل الناس مالها بوشين يا تبقى يا كافر’ يا خاين أو قابض قرشين !!!
لعل كاتب هذه السطور اليائسة والبائسة والواعدة فى ذات الوقت ! ’ لو أنه كان قد عاش بيننا وعايش معنا هذه الأمسية الثقافية والفنية الرائعة ’ نقول كان لابد أن يعيد النظر فى ياسه من كل الناس ’ ويفكر تانى فى الناس بس ’ فى الناس اللى بوش واحد وموش بوشين .
ربما يقصد صديقى كاتب هذه السطور الساخرة أن يوجه نقدا لاذعا لمنظوميتين فى الحياة تسببتا فى تلويث اذهان الناس وتشويش ما بينهم من علاقات وتشتيت ما بقى لهم من عقل !
هاتان المنظومتان هما ’ للأسف ’ السياسة بكذبها والدين بفتاويه ! كان القصد الاساسى من السياسة هو تنظيم علاقة المواطن بالدولة أى العلاقة بين المواطن والحاكم والعلاقات بين المواطنين وبعضهم البعض ’ كما كان القصد المبدئى من الدين ’ أى دين ’ منذ الديانات الفرعونية واليونانية القديمة ’ هو تقنين العلاقة بين الله والانسان وبين العبد وربه ’ وبين الانسان وأخيه الانسان .
بات الانسان المعاصر فى حيرة من أمره لأن الدين تحول من منظم الى ماكينة فتاوى ولهذا تمنى صديقى وقال ( نفسى نبطل نفتى دقيقة !!!) وكما تحولت السياسة الى سلسلة من الأكاذيب ’ وللسياسيين يقول ( ...ونبطل كذب كمان !!!)
يأتى الفن وتأتى الثقافة لكى ما تغير ما بقوم قد قرروا أن لا يغيروا ما بأنفسهم !’ الفن هو مكان لقاء وجوه والثقافة هى مطرح حوار عقول ! كما أن الفن والثقافة ’ بدورهم ’ يطرحون أسئلة جذرية وناقدة على المجتمع بمكوناته الدينية والسياسية ( على سبيل المثال لا الحصر مسرحيات الفنان عادل أمام والتى تمطر الدين ( الواد سيد الشغال ) والسياسة (الزعيم) بوابل من الاسئلة المصيرية ويعشقها الناس ) ’ كم وكم اذا جاء الفن ’ فى الظروف الكونية العابسة ’ فى اليونان ومن شباب فنانيين مثل أحمد عوض (المسلم !) وجورج متى(المسيحى!) والموسيقار والفنان نبيل الصايغ والذى وحد بين الموسيقى الكنسية والفن العالمى الراقى ’ ومعهم من شباب وصبايا واعد ون أبوا الا أن يغيروا ما بانفسهم ’ وهم يطلقون على أنفسهم شباب التغيير بالفعل وليس بالكلام والكذب والفتاوى ! عشنا ’ فى هذا الحفل الرائع ’ بداية نهاية عصر الفتاوى الدينية والتى تفرق بين احمد وجورج ومينا ومصطفى وفوتينى وحسنية ’ وبين المحجبة والسافرة (’كلهن كنا فى منتهى الاناقة والشياكة ’) حسب رأى أصحاب الفتوى ’ على فكرة ’ أصحاب الفتوى من المسيحيين والمسلمين على حد سواء(نرى اليوم فى المحروسة من رجال الدين المسيحى ! من يريد أن يضع حجابا على رؤؤس البنات المسيحيات ومن قرر أن يفحص المتناولات وحيضهن ) ! لاهوت الحيض وما حدش أحسن من حد !!!
هذه الحفل الثقافى والفنى الرائع والذى أحتضنته مدينة أثينا العامرة والعريقة فى أقوى صروحها الثقافية وهو مسرح المتحف الحربى بأرقى أحياء ألعاصمة اليونانية ’ يمثل نقلة نوعية فى الحضور العربى فى بلاد الغرب ’ يأتى الشرقى بتراثه الثقافى والفنى ’ لا لينعزل بل ليندمج من خلال تراثه ’ شاهدنا الرقص التراثى اليونانى والرقص الشرقى المصرى ’ الصبايا اليونانيات يتعلمن الفنو ن الشرقية. استمعنا الى الأغانى الشرقية الخالدة بأصوات شابة ’ كما تجولنا فى ربوع السودان الشقيق ومصر الحضارة وسورية الصامدة وفلسطين الخالدة . بدء الحفل على أنغام النشيدين الوطنيين اليونانى والمصرى ’ وليس بأية طقس دينى(لحسن الحظ !!!والا كنا سنضرب الكراسى فى الكلوبات ونقفل الفرح!!!) ! ’ وهذا له دلالة كبرى وهى أن الاوطان فوق الأديان ! الى جانب أن النشيدان الوطنيان قد هزا وجدان الجميع ’ الا أنهما قد أكدا على التعاون والاندماج العربى الأوروبى والمصرى اليونانى’ وليس الذوبان والانصهار فى تفرنج ركيك وأعرج يرفض كل ما للوطن رفضا مريضا ويقبل كل ما للغربة قبولا سخيفا ومبهورا انبهار من بهرته أضواء المدينة !
الثقافة والفن هما الحل وبالتالى الانسان هو الحل ! لانهما ’ أى الثقافة والفن ’ الراقيان بالطبع ’ يخاطبان أجمل ما فى الانسان من نور ونعمة وعطايا الهية كامنة . نظر الى شاب من القائمين على تنظيم الحفل الجميل بثوبه الأبيض وحوله مجموعة من الصبايا الجميلات بثياب بيض وكأنهن ملائكة الثقافة ورسل الفن ’ نقول نظروا الى مستغربون وهم يروننى بثيابى الكهنوتية السوداء الكاملة وبصليبى الفضى واللامع على صدرى وحاطط مشط فى جيبى لزوم العياقة وقلم (مون بلان) فخم فى جيبى والقميص به زراير لامعة لزوم الشياكة وكل شوية أشد الكم الاسود عشان ابين الزراير ! ورأيت فى عيونهم وعيونهن سؤالا وحيرة ! ما الذى أتى (برجل دين) الى هذا المحفل الغير الدينى ؟ هم أبرياء وضحايا تربية دينية وثقافية وسياسية انفصامية ونفاقية لا حل لها ولا علاج الا فى مصحات العلاج النفسى ولا مكان لها فى أيامنا ! قلت له أنا لم أتى كرجل دين والا كنت (كفرت أهاليكم !!! قلتها فى سرى ’ طبعا’ وليس علنا !!!) أنا لم أتى الى هنا كرجل دين ’ لأنه ما أقبح هذا التعبير على حد رأى المطران جورج خضر ’ بل أتيت كعالم فى اللاهوت وباحث ساجد فى جمالات الانسان وتاريخه وثقافاته ’ كل انسان وكل الانسان ’ واللاهوت ’ لا الدين ’ كما قلت لهم ولهن (على فكرة كان اولادى ’ جورج وجوزيف وسارة ’ بيغنوا ويرقصوا فى الحفل مع أحمد وفاطمة وشيماء ’ باشراف الأخ الفاضل والفنان والصديق جورج متى وزوجته الرائعة ومن معهم من خيرة الشباب والصبايا ) ’ اللاهوت وليس الدين ’ قلت ’ وأكرر ’ يعلمنا أن ايقونة الله فى الانسان هى طاقات وامكانيات وضعها الله فى الانسان لكى ما يستثمرها الانسان ’ بكامل حريته ’ للخير وللمنفعة أو للتخريب والتدمير ’ وما الفن والموسيقى والثقافة والشعر والرياضة والسباحة والقرأة الكتابة والابداعات التى تصاحبهم ’ الا ومضات واشراقات مما وضع الله فى الانسان من نعم وعطايا وما أعطاه من هداية (بكسر الهاء وفتح الألف)وهدايا( وهى فى لغة اللاهوت ’الطاقات الالهية الغير المخلوقة (الأنيرجيات ) على حد تعبير اللاهوتى العربى المنبت واليونانى الثقافة واللسان يوحنا الدمشقى فى القرن السابع ) . أذن الانسان هو مشروع استثمارى ثقافى وفنى كبير وليس مشروع استغلال سياسى ونصب دينى حقير !!! لم يعد الانسان هو ذلك المجهول كما قال يوما عالم الفيزياء توماس كارلايل ’ بل هو ذلك المعلوم حسب قصد الحياة التى بشر بها يسوع .
أهنئ الجالية العربية بهذا الحفل الرأئع وكل حضوره وضيوفه الكرام وكنت أتمنى أن يحضر من رجال الدين ’ كل الأديان ’ الكثيرون حتى يؤكدوا لهذا الشباب الواعدون وللصبايا الحلوات ’ بأن الله لا يحقد على الانسان ولا يحسده اذا ما أستثمر مواهبه فى خير وفرحة الناس ’ الله لا يمكن أن يكون ماكرا ولا حسودا ولا غيورا ’ بل يريد الانسان ’ كل انسان ’ فى وجه يسوع المسيح ’ ابنا له ومتى صار ابنا ونضج وكبر ’ ينطبق على هذه العلاقة المثل الصعيدى (أن كبر ابنك خاويه ) ولا مكان للمثل الخايب الذى يعبر عن فكر دينى فاشل ولاهوتى متخلف (أن جالك الطوفان (وهنا طوفان التكفير والارتداد والديانة الاسمية والقافة الضحلة )حط ابنك تحت رجليك!) ’وحتى أذا التقى هؤلاء الشباب والصبايا رجال الدين فى دور العبادة المختلفة ’ لا يشعروا ولا يشعرن ’ بالانفصام والنفاق والمجاملات الساقطة ’ تحوم فوق الرؤؤس والتكفير يغيم على العقول وبدلا من الاستغراق فى الحب الالهى ’ يغرقن فى البحث عن السافرة والمحجبة !!! ولأن من جاور الحداد يتكوى بناره ’ فقد بدأ (بعض )رجال الدين المسيحى فى الاقتداء بالاخوة (المتطرفين ) فى الوطن الغلبان ’ فى البحث فى مجال كيفية دخول البنت والسيدة المسيحية الى دور العبادة ’ولم يسمعوا أو يقرأوا فى اللاهوت ’ أن العفة والانضباط هى نعمة وبركة واشراقات سماوية يلتقطها الانسان ’ ذكرا أو أنثى ’ بالروح ’ وأن أكبر الجرائم والتحرشات تمت وتتم من تحت الجلاليب البضاء والسوداء والأحجبة والايشاربات ! وخاصة ما قاله بولس الرسول ( .......أعمال الجسد ظاهرة التى هى زنا ’ عهارة ’ نجاسة ودعارة ’ عبادة الأوثان (أو الأوساخ من أوسخ الأشخاص لأنه حاليا لا يوجد أصنام حجر بل أشباح وأشباه بشر ! ) سحر عداوة خصام غيرة سخط تحزب انشقاق بدعة ’ حسد قتل سكر وبطر ...وأما ثمر الروح فهو محبة ’ فرح سلام ’ طول أناة ’ لطف صلاح وايمان ووداعة وتعفف ’ ضد أمثال هذه ليست شريعة ولكن الذين هم للمسيح قد صلبوا (أهواء وأوجاع وتحرشات ) الجسد ’ وليس الجسد ’ ان كنا نعيش فى الروح فلنسلك بحسب الروح ’ لا نكن مغرورين نخاصم بعضنا بعضا ونحسد بعضنا بعض ) رسالة بولس الى الغلاطيين 5 ’ 16 – 26 ! وهنا أعود الى قصيدة صديقى الشاعر الخلاق فى زهقه والزهقان فى ابداعاته ! والتى بدأت بها هذه السطور وأقول له : يا صديقى أن الفن الراقى والثقافة الواعية سوف يقضيان على الخباثة والنفاق الدينى ويبددان الحيرة والكذب السياسى ’ ويرجع كل الناس ’ كما يتمنى الشاعر’ (مالهاش وشين ولا كافرة ولا قابضة قرشين !!! ) بل قابضة على زمام ثقافة وفن المستقبل المشرق ’ وقابضة ’ وهذا هو الأهم ’ على مصيرها فى يديها ! لقد خرج العرب فى هذا الحفل من نفسية الخطابة الغوغائية والارثوذكسية الكلامية ’الى منهجية الابداع الفنى وقرأة التراث بعيون انسانية وشبابية جديدة ’ ناقدة وليست حاقدة ! ’ وقدموا لنا شبابا وصبايا أبرياء وشرفاء وهنا شباب التغيير و الثوار الحقيقيون هم من سيكرمون الله فى وجه الانسان الجديد ونهضة الأوطان و الثقافة الكبيرة لا تنتفخ ولا تتعصب ولا تقصى تراثا لان شيئا انسانيا ليس عنها بغريب ’ (الثقافة الكبيرة تدرك أن الخير هو فى كل أرجاء الأرض وأن هذا الخير المبدع هو حق لكل مواطن وكل انسان وهو لن يكون صالحا ما لم يحب كل خير وفن وثقافة أنتجها العالم من بدء التاريخ ) المطران جورج خضر : كتاب "لبنانيات"دار النهار بيروت 1997 ص 278.
والى الحفل القادم بأذن الله الفنان الكبير ومصدر كل الابداعات .