مريم عادل
كنا علي مشارف عصر من عصور النهضة المصرية هو الأخير فى تاريخ مصرنا القديم، إنه العصر الصاوى الذى يمتد لأكثر من مائة عام ما بين القرنين السابع والسادس قبل الميلاد، ويبدأ ذلك العصر بنجاح المصريين فى التخلص من الاستعمار الآشورى وينتهى بسقوط البلاد فى يد الفرس سنة 525 قبل الميلاد.
فما ذلك العصر؟ وما سماته الأساسية؟
العصر الصاوى، ذلك العصر الذى نجح فيه ملوك مدينة سايس أو صان الحجر فى الدلتا فى تحرير البلاد من السيطرة الآشورية نهائيا على يد بسماتيك الأول بن نخاو الذى تختلط فى عروقه دماء الأسرات الحاكمة المصرية والليبية والنوبية.
وخلال العصر الصاوى عاشت مصر نهضة سياسية وثقافية ودينية واقتصادية وأعيد تنظيم البلاط والإدارة وشاع استخدام الكتابة الديموطيقية (الشعبية) فى أنحاء البلاد بما يعنيه ذلك من شيوع الثقافة فى وسط طبقات أوسع فى المجتمع المصرى، وتم رد الاعتبار للمعتقدات الدينية المصرية التى أهانها الآشوريون بقسوة بالغة غير مسبوقة فى التاريخ المصرى، وشهدت البلاد حركة تشييد وبناء واسعة كانت تعتمد على استلهام النماذج الفنية للدولتين القديمة والوسطى، كما عرف ذلك العصر انفتاح مصر على الإغريق واتساع معاملاتها التجارية معهم، بل والاستعانة بمقاتلين محترفين منهم فى الجيش المصرى، وكان أساس كل هذه النهضة هو حركة التحرر من نير السيطرة الآشورية وهى حركة استغرقت سنوات طويلة قبل العصر الصاوى.
لم يكن نجاح بسماتيك الأول فى التخلص من السيطرة الآشورية على مصر وليد اللحظة، بل جاء نتيجة لتاريخ طويل من الصراع الآشورى المصرى، لكنه كان الرجل الذى حقق النجاح الذى قضى على نفوذ آشور فى مصر نهائيا بل وأسهم فى القضاء على الإمبراطورية الآشورية كلها.
إن قصة الصراع المصرى الآشورى ترجع إلى أواسط القرن الثامن قبل الميلاد عندما بدأ الملك شالمنصر الثانى ملك آشور بخطط للسيطرة على مناطق النفوذ المصرى فى سوريا وفلسطين.
وفى مواجهة هذا الخطر اتبعت مصر سياسة إقامة التحالفات مع الولايات السورية وإمدادها بالدعم الحربى حتى تشكل حاجز صد يحول بين الخطر الآشورى ومصر، وفى عام 722 قبل الميلاد تولى حكم الدولة الآشورية ملك محارب هو سرجون الثانى، وأخذ يغزو المناطق الشمالية من سورية ولبنان ويخطط لغزو مصر، وبالفعل، وصل سرجون الثانى إلى رفح عند حدود مصر الشمالية الشرقية، وهناك تصدت له القوات المصرية المتحالفة مع بعض الولايات الفلسطينية وألحقت بجيشه خسائر فادحة، وردته إلى بلاده.
وفى عصر سناحريب تجددت المطامع الآشورية فى سورية وفلسطين ومصر، واتجه الملك الآشورى غربا ليصطدم بجيوش مصر وحلفائها من اللبنانيين والفلسطينيين عند مدينة بيت المقدس، ويعود إلى بلاده مدحورا. وفى عام 674 قبل الميلاد وطأت الجيوش الآشورية بقيادة الملك آشور أخى الدين أرض مصر للمرة الأولى، حيث وصلت إلى شرق الدلتا، وهناك كان الملك المصرى ذو الأصول النوبية طهارقا قد استعد بجيوش ضخمة للتصدى للغزاة ونجحت جيوشه فى هزيمة الآشوريين وطردهم مرة أخرى إلى بلادهم، وتصور الملك المصرى طهارقا أن الأشوريين لن يفكروا فى العودة إلى مصر مرة أخرى بعد الهزيمة القاسية التى تلقوها، خاصة بعد أن تحالف معه الملك بعل صاحب صور وأقوى ملوك لبنان، لكن الأمور سارت فى مسار آخر، ففى سنة 670 قبل الميلاد انقض آشور أخى الدين على مدينة صور وعاقب بعل على انضمامه إلى مصر وتحالفه معها، وقبل أن يعد طهارقا جيوشه كان الجيش الآشورى يطرق أبواب الدلتا بعد أن سلك طريقا صحراويا مختصرا دله عليه بعض أفراد قبائل البدو الرعاة مقابل مكافأة سخيه، ونجح الآشوريين فى احتلال الدلتا بكاملها.
ولم يحترم الآشوريين معتقدات المصريين وديانتهم، لكنهم بطشوا بالثقافة المصرية وحاولوا تدميرها. وقد استنفر الاحتلال الأشورى المشاعر الوطنية لدى جميع المصريين بمختلف طبقاتهم وانتماءتهم، ودعا أهل الدلتا الفرعون طهارقا للزحف شمالا من عاصمته فى طيبة لتحريرهم، ونجح طهارقا بالفعل فى تحرير الدلتا، وتمكن من طرد الحامية القوية التى تركها الملك الآشورى فى البلاد قبل مغادرته لها، لكن نجاح طهارقا لم يدم طويلا فما لبث الملك الآشورى الجديد آشور بنى بعل أن أرسل جيشا قويا ليحتل مصر مرة أخرى. وقد سجل آشور بنى بعل انتصار جيوشه على طهارقا فى نص جاء فيه:
«سرت فى حملتى الأولى على مصر وأثيوبيا، لأواجه طهارقا ملك مصر والنوبة، الذى هزمه والدى الملك آشور وحكم بلاده، إن طهارقا هذا قد نسى جبروت آشور وعشتار، والآلهة الآخرين العظماء أربابى، ووضع ثقته فى قوة نفسه، فانقلب على الملوك والنواب الذين عينهم والدى فى مصر، فدخل واستقر فى منف، وهى المدينة التى فتحها والدى وجعلها إقليما آشوريا، وقد حضر رسول مستعجل إلى نينوى، ليخبرنى بذلك، فاستولى علىّ الغضب بسبب هذه الأحداث، واشتعلت روحى، فرفعت يدى وتضرعت إلى الآلهة، وبعد ذلك جمعت جيشى الكبير الذى وكل إلىّ أمره الإله آشور والآلهة عشتار، وسلكت أقرب طريق، إلى حدود النوبة، وبمقتضى أمين أوحى به الآلهة العظام أربابى الذين يستقرون دائما بجوارى هزمت الجنود المدربين فى موقعة عظيمة مكشوفه.»
ولم يتوقف الآشوريون هذه المرة عند احتلال الدلتا، بل تعقبوا طهارقا فى مصر العليا حتى عاصمة البلاد طيبة، وكانت النوبة هى الملجأ الأخير الذى يحمى الثقافة المصرية دائما، فاتجه طهارقا إلى عاصمته الأصلية نباتا فى الجنوب، ولم يتمكن الآشوريون من توفير قوات عسكرية للسيطرة على مصر من جنوبها إلى شمالها، فاكتفوا باحتلال الدلتا مع فرض الجزية على مصر العليا.
لكن الأمور لم تستقر للآشوريين فى مصر، فقد بدأت حركات التحرير السرية تنتشر فى أرجاء البلاد، وجعل المصريون من بلادهم جحيما لا يطاق للغزاة، ونجح أمير مصرى تجرى فى عروقه دماء ليبية يدعى نخاو فى توحيد المصريين حوله، حيث اعتبروه الزعيم الروحى لحركتهم، واتبع المصريون تحت زعامة نخاو أسلوب حرب العصابات ضد الاحتلال الآشورى، واستمرت مقاومتهم فى تصاعد إلى أن تمكن الحاكم الآشورى لمصر من القبض على نخاو وأرسله إلى العاصمة الآشورية نينوى. ولما كان نخاو رجلا مسنا ومثقفا حكيما فقد استطاع بحكمته وصبره أن يبهر آشور بنى بعل، فعفا عنه وأرسله مع زملائه إلى مصر وعهد إليه بإمارة الدلتا.
وإذا كانت أمور الدلتا استقرت بعد أن أصبح أميرها شيخا مصريا، فإن الصعيد ظل يغلى بالمقاومة، وتجمعت جهود أهله تحت قيادة شاب متحمس اسمه تانوت آمون، ونجح تانوت آمون فى حشد جيش ضخم من الفلاحين استطاع أن يهزم به الآشوريين عند منف، لكنه لم يتقدم إلى الدلتا وكان هذا هو الخطأ التاريخى الذى وقع فيه.
فقد أرسل الآشوريون فرقه عسكرية ضخمة من سوريا هزمت تانوت آمون فى منف سنة 661 قبل الميلاد وطاردته حتى طيبة، ودمروا المدينة ومعابدها تدميرا تاما، بينما فر الأمير الشاب إلى نباتا، وانتقلت مهمة تحرير البلاد مرة أخرى إلى أمراء الشمال حيث تصدى لهذه المهمة الأمير بسماتيك الذى أصبح فيما بعد الفرعون بسماتيك الأول مؤسس الأسرة السادسة والعشرين، وقد نجح هذا الأمير فى توحيد البلاد خلفه لأنه جمع بين أصول أبيه نخاو الشمالية والذى يمت بصلة للأسرات الليبية التى حكمت مصر فى أواخر الدولة الحديثة، وبين أصول أمة النوبية والتى كانت ابنه للفرعون العظيم طهارقا، وبعد سنوات من الجهاد جمع فيها بسماتيك بين المقاومة المسلحة والجهود
الدبلوماسية لتوحيد أعداء أشور فى العالم القديم نجح الرجل فى مهمته، فما أن حل عام 640 قبل الميلاد إلا وكان آشور بنى بعل قد أدرك إدراكا تاما أن مصر قد خرجت من تحت سلطانه بلا رجعة. وكانت هذه بداية انهيار الإمبراطورية الآشورية كما كانت نقطة الانطلاق لبناء عصر النهضة المصرية الأخيرة فى حضارتنا القديمة والذى يعرف بالعصر الصاوى.