بقلم : أحمد صبح

إن معظم الكاتبين عن الفرق الإسلامية يتأثرون بروح التعصب الممقوت ، فكانت كتاباتهم مما تورث نيران العداوة والبغضاء بين أبناء الملة الواحدة ، وكان كل كاتب لا ينظر إلى من خالفه إلا من زاوية واحدة ، هي تسخيف رأيه وتسفيه عقيدته ، بأسلوب شرُّه أكثر من نفعه ؛ ولهذا كان من أراد الإنصاف لا يكوِّن رأيه عن فرقة من الفرق إلا من مصادرها الخاصة ليكون هذا أقرب إلى الصواب ، وأبعد عن الخطأ ، لأن الله سبحانه طلب من الأمة الإسلامية أن تتوحد كلمتها ، وألا تكون شيعاً وأحزاباً ، يضرب بعضها رقاب بعض " وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً " ، فكل عامِلٍ على لم شملها ، ساعٍ إلى تأليف قلوب أبنائها ، فهو مؤمن حقاً مجاهد في سبيل أنبل غاية عني بها الإسلام ، وهي تأليف القلوب وتوحيد الأهداف ، وأما أولئك الذين يورثون العداوات ، ويبعثون العصبيات ويفرقون بين الأخ وأخيه ، ويصطنعون العداوة والبغضاء فهؤلاء هم الذين يسعون في الأرض فساداً ، وواجب المسلمين المخلصين أن يقفوا لهم بالمرصاد وأن يبصروا الأمة بهم ، ويكشفوا لهم أهدافهم وسوء غاياتهم .

ولقد فهم المسلمون الأولون روح هذا الدين الحنيف ، واختلفوا في فهم نص من كتاب الله أو سنة رسول الله ولكنهم – مع هذا الخلاف – كانوا متحدين في المباديء والغايات ، ولم يكفّر بعضهم بعضاً ، بل كانوا يداً واحدة على من عاداهم ثم خلف من بعدهم خلف جعلوا الدين لأهوائهم ، فتفرقت الأمة إلى شيع وأحزاب ومذاهب وعصبيات ، واستباح بعضهم دماء بعض ، وكان بأسهم بينهم شديداً ، فطمع فيهم من كان لا يستطيع أن يدفع عن نفسه ، فذهبت ريحهم ، وتجرأ عليهم أعداؤهم ، وانتقصوا بلادهم من أطرافها ، كل هذا ودعاة الفتنة سائرون في غيهم ، ماضون في طريقهم ، لا يدفعهم إلى هذا الطريق الشائك إلا أحد أمرين : إما الجهل بمباديء الإسلام الصحيح أو الكيد لهذا الدين الحنيف ، ولقد لقي الإسلام على يد هؤلاء مالقي من نكبات ومصائب ، ولولا قوة تعاليمه وصفاء منبعه واتساق عقيدته مع الفطرة الإنسانية لحُرِمت الإنسانية من مزاياه وفضائله .

هذه الفرقة القاتلة ، وتلك الدماء المهراقة على مر القرون لم تفد الإسلام في شيء ، بل نخرت عظامه ، وأضعفت مقاومته لتيارات الغدر والاستعمار ، وإن هذه الخلافات من الخطورة بحيث أن كل مسلم صحيح الإسلام غيور على دينه ووطنه لابد وأن يتحمل جانباً من تلك المسئولية ، سواء أكان من السلف أو المسلمين المعاصرين ، فلم يندك خنجر الفرقة في صدر الإسلام بأيدي المسلمين ، ولكن بأيدي قوم ادعوا الإسلام ليصلوا إلى هذه الغاية ، ولم يدخل الإسلام يوماً إلى قلوبهم ، حتى أنهم مكنوا لبعض الخونة أن يتصدروا المشهد في فترات من التاريخ ، وحتى لم يجد بعضهم غضاضة في أن يستعين على خصومه من المسلمين بأعداء الإسلام الذين اغتصبوا ديار الإسلام والعرب في بعض الأزمان ! .


ولا زال أعداء الإسلام يستفيدون من تفرق المسلمين في مذاهبهم ، وهم من أجل ذلك يوسعون شقة الخلاف بين المسلمين من أبناء الوطن الواحد ، ففرقوا بين السني والشيعي في العراق ولبنان ، وبين السني والإباضي في تونس والجزائر ، وساروا على نفس الطريقة في بقية بلاد المسلمين ، والفرقة دائماً تؤدي إلى الضعف ، وضعف المسلمين يمكن الاستعمار من أن يثبت أقدامه في أرض المسلمين ، وأرض المسلمين اليوم هي أغنى بلاد العالم بالمواد الخام التي تحتاج إليها الصناعات الضخمة المعاصرة ، ولاسبيل أمام المستعمر للوصول إلى هذه الثروات الضخمة إلا عن طريق تمزيق الشمل وتفريق الكلمة ، وتأليب المسلم على أخيه المسلم ثم تقريب بعض ضعاف النفوس من أبناء الفرق الإسلامية وتشجيعهم والإغداق عليهم ، وبناء آمال لهم كذاب ، وبذلك يخرجون من وطنيتهم ويتخذون منهم معاول هدم وأدوات تدمير .
ولقد تنبه المصلحون من المسلمين إلى الأضرار التي تحيق بدينهم وبلادهم من جراء هذه الفرقة ، فقاموا ينادون بوجوب وحدة الصف الإسلامي ، وإطراح أسباب النفرة بين أبناء الديانة الواحدة والقِبْلَة الواحدة والعقيدة الواحدة .
ولقد اتخذت هذه الدعوة طريقها على يد بعض الأفراد الذين باعوا أنفسهم لله ، فكانت دعوة فردية في أول أمرها على يد جمال الدين الأفغاني ، ومحمد عبده وغيرهما ، ثم بعد ذلك أخذت شكلاً جماعياً ، فكانت جماعة التقريب بين المذاهب الإسلامية التي جمعت نخبة من فضلاء الأمة الغيورين على وحدتها الحريصين على رأب الصدع بين صفوفها ، وكان من أثر ذلك أن قررت مشيخة الأزهر أن تتوسع في دراسة الفقه المقارن في كلية الشريعة الإسلامية الأزهرية ، بحيث تتناول دراسة المذاهب المختلفة ، ومعرفة وجهة نظرهم في الأمور الفرعية وهذه خطوة مباركة أؤيدها لأنها تسعى نحو الغاية النبيلة التي يهدف إليها الإسلام ، وهو أن يكون معتنقوه أمة واحدة قد تختلف في أفهامه ولكنها لاتختلف في أسسها وغايتها .
ليست الدعوة إلى تقريب المذاهب الإسلامية التي أؤيدها دعوة إلى تقريب مذهب على حساب مذهب ، ولكنها دعوة إلى تنقية المذاهب من الشوائب التي أثارتها العصبيات والنعرات الطائفية وأذكتها العقلية الشعوبية .


وإن السبيل الوحيد إلى إعادة الصف الإسلامي إلى وحدته وقوته أن لا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله ، وأن نطرح وراء ظهورنا تلكم التأويلات البعيدة للنصوص الشرعية من كتاب الله والسنة الصحيحة ، وأن نفهمها كما فهمها المعاصرون للتنزيل ، وأن نجعل أهواءنا تبعاً لديننا ، ولا نجعل ديننا تبعاً لأهوائنا ، وأن نحارب احتكار فرد أو أفراد تعاليم الدين ، فما كان الإسلام دين أسرار وأحاجي لايعرفها إلا طائفة خاصة تطلع عليها من تشاء ، وتمنعها عمن تشاء ، فما انتقل النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى حتى بلّغ الرسالة وأدّى الأمانة ، وطلب من أتباعه وأصحابه أن يبلغوا ماعلموه ، وأخذ عليهم العهد والميثاق في أكرم موضع ، وأكرم يوم ، وأكرم جمع ، أن يبلغوا ماعلموا ، فرُبّ مبلَّغ أوعى من سامع .
والمسلمون جميعاً مسئولون عن أداء رسالة الإسلام ، ولايتفاوتون فيما بينهم إلا بقدر فهمهم لكتاب الله وسنة رسوله ، وليس لأحدهم – بالغاً مابلغ – أن يحرم ما أحل الله ، أو يحل ماحرم الله " وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ لاَيُفْلِحُونَ " .
وإن الانحراف عن جادة الصواب والطريق المستقيم لايجد استجابة إلا في بيئة جاهلة بأحكام دينها ، فعندئذ نجد المستجيبين لصَيْحة كل ناعق ، وكلما انتشر العلم ، ودق النظر ، قلت فرص النجاح أمام دعاوى العصبية الحمقاء ، والانحراف الشديد ، وإذا أمعنا النظر جيداً ، وطرحنا الأفكار البالية الجامدة خلف ظهورنا ، فإننا لن نجد كبير خلاف بين السنة وبين الإباضية ، فالإمام أبو حنيفة السني كان تلميذاً للإمام "زيد ابن على" الذي ينتسب إليه المذهب الزيدي ، أخذ عنه الفقه وأصول العقائد ، والإمام زيد تلميذ لواصل بن عطاء أحد رؤوس المعتزلة ، وكان ملازماً له ، وقد لاموه في ذلك ، ولكن زيداً صاحب الأفق الواسع والمدارك السمحة ضرب بكل ذلك عرض الحائط وظل مخلصاً لتعاليم واصل بن عطاء وأخذ عنه ، ولذلك فإننا نرى الكثير من سمات الاعتزال طافية واضحة على صفحة المذهب الزيدي ، وبذلك نرى الإمام أبا حنيفة السني أخذ عن الإمام زيد الشيعي عن واصل بن عطاء المعتزلي ، وليس ذلك فحسب ، بل إن إماماً سنياً آخر يأخذ عن إمام شيعي آخر وذلك هو مالك بن أنس الذي كان تلميذاً للإمام جعفر الصادق رأس الشيعة الإمامية أو الجعفرية ، وكان إماماً فاضلاً ورعاً له من الإيمان والثقة الدينية الشيء الكثير والقدر الكبير ، ولذلك فإن فقهه الذي لم يتعرض للتشويه ونظراته محل احترام جميع أهل السنة ، ومن هنا لايبدو الأمر غريباً أن يتَفَقّه الإمام مالك السني على الإمام جعفر الشيعي ، ويأخذ عنه هو وغيره من الأئمة الذين عرفوا فيما بعد باسم السنة ، وإذا فليس ثمة خلاف واسع بين السنة والشيعة الزيدية ، طالما أن أئمة هذه المذاهب قد ارتبط بعضهم ببعض في ثقافته وعقيدته وأفكاره على النهج الذي ذكرنا .


على أن الأمر لم يقف في علاقات المذاهب بعضها ببعض عند هذا الحد ، بل إن الإمام البخاري حافظ السنة كان يجلس بين يدي عمران بن حطان الخارجي يتلقي عنه الحديث ويدونه ، فتكون هذه صلة جديدة بين الخوارج والسنة ، بل إن واصل بن عطاء وعمرو بين عبيد رئيسي المعتزلة أخذا علمهما من الحسن البصري الذي يعتبره الشيخ محمد عبده شيخ السنة من التابعين ، حتى أن الحسن البصري يسأل عن عمرو بن عبيد رأس المعتزلة فيجيب سائله قائلاً " لقد سألت عن رجل كأن الملائكة أدبته وكأن الأنبياء ربته ، إن قام بأمر قعد به ، وإن قعد بأمر قام به ، وإن أمر بشيء كان ألزم الناس له ، وإن نهى عن شيء كان أترك الناس له ، مارأيت ظاهراً أشبه بباطن منه ، ولاباطناً أشبه بظاهر منه "
إن عالماً جليلاً مثل الحسن البصري لايمكن أن يصف عمرو بن عبيد بهذه الأوصاف لو كان فيه قيد شعرة من انحراف في مذهبه واعتقاده ، وإنما الانحراف في الاعتزال الذي جاء فيما بعد وعلى يد خلفائه ممن تأثروا بالفلسفة اليونانية ، فالاعتزال في أصله وروحه ليس بعيداً عن السنة ذلك البعد الذي ظهر فيما بعد .
وهكذا نجد تلك الروابط الأكيدة التي تجمع بين السنة والإمامية في شخصي مالك وجعفر ، وبين السنة والزيدية في شخصي أبي حنيفة وزيد ، وبين السنة والمعتزلة في أشخاص الحسن البصري وعمرو بن عبيد وواصل بن عطاء ، وبين الزيدية والإمامية في شخصي الأخوين زيد ومحمد الباقر ، وبين السنة والخوارج في شخصي البخاري وعمران بن حطان الذي أملى الحديث على البخاري ، بل الخوارج والإباضية – بصفة خاصة – هم أول من جمع الحديث الذي يعتبر المصدر الثاني لفقه السنة وعقائدها .


إذن توجد روابط أكيدة متينة لها وزنها وقداستها تلك التي جمعت بين المذاهب الإسلامية والتي يعتنقها عدد كبير من المسلمين .
وأنا اعتقد مخلصاً أنه لو حسنت النوايا ، وألقيت رواسب الماضي البعيد جانباً لخرجنا صفاً واحداً لايفرق جماعة من جماعة إلا كما يحدث من خلاف بين أئمة المذهب الواحد ، فإن لب العقيدة واحد ، ومصدرها واحد ، وإلههاواحد ، ورسولها واحد !
ألا فليتق الله في الناس وليرع الوطن في المواطنين كلُّ داعٍ إلى الفرقة ، بدلاً من أن يزرع سوءاً فيجني الناس فساداً أحمد صبح