بقلم: كمال زاخر موسى
يطل علينا عيد الميلاد المجيد، بحسب التقويم الشرقى، هذا العام ليجدنا نرتب أوراق الوطن مجدداً سعياً لإدراك ما فاتنا فى السنين التى أكلها جراد العسف والفرقة والوقيعة الممنهجة بين الشعب الواحد الذى أذهل العالم بتراثه وحضارته ثم عاد ليذهله بثورة 25 يناير بروحه التى لا تموت رغم ما يغشاه من ضيم وعنت، وشهد لشبابه فى بواكير الثورة كل قادة العالم فى لحظة تاريخية فارقة.
وبين العيد والثورة خطوط ممتدة فصاحب العيد أفاق التاريخ بثورة سلمية كان سلاحه فيها الكلمة، بل كان هو بذاته "الكلمة"، فى وقت كانت القوة الغاشمة هى اللغة المعتمدة وكانت الإمبراطورية الرومانية تفرض سطوتها على العالم بأسره، انتفض العالم ليواجه ذلك القادم السرمدى، منذ لحظة ولادته، فما كان من الطفل الوليد إلا ان يولى وجهه هارباً ولاجئاً صوب مصر حيث الدفء والأمان ليعود مرة اخرى الى موطنه محملاً بذكريات النيل والزروع والحضارة التى استلهم منها موسى كليم الله حكمته وتدبيره.
كانت المعجزة بجوار الكلمة مدخله للتواصل مع الإنسان المضطرب والبائس، لكن كان هناك خيط يمتد بين كلماته ومراحمه، سعيه الدؤوب ليصالح فى شخصه الإنسان مع الله، كانت رسالته خدمة المصالحة، على مستويات متعددة؛ يصالح السمائيين مع الأرضيين، يصالح الجسد مع الروح، يصالح الإنسان مع ذاته، ولم يكن من الممكن ان تحدث المصالحة بغير ان يتحرر الإنسان من قيود لفته وكبلته وكان من جرائها ان انقطع التواصل مع مصدر الحياة لتتحول العلاقة الى أوامر ونواهى وناموس عرف من خلاله معنى الخطيئة ولمس عقابها ، الموت، بين المصالحة والتحرير كان صوت المسيح ينادى بملكوت السموات، تصالحوا مع الله، تحرروا من قيود العالم، انطلقوا من ذواتكم، احبوا اعدائكم باركوا لاعنيكم، إن أحببتم الذين يحبونكم فأى فضل لكم؟، لم تنفصل دعوته عن حياته، كان يسير أميالاً ليربح نفساً ضالة، ويحول الحزن الى فرح والموت الى حياة، وحين تثور الرياح وتعلو الأمواج يسارع لينتهرها فتهدأ وتسير سفينة تلاميذه، لم يترك كتاباً بل حياة تأسست على التأمل كنسق معاش، كانت مدخل من أخذ به الى ابداعات وعلوم وثقافة وحضارات، وكان متيقناً من أن المرء حين يختبر المصالحة ويقتنى التحرير سينحى بالضرورة تجاه السلام كخيار وحيد على خلفية وعد المسيح بأن السلام الذى يعطيه لنا ليس كسلام العالم، فالأخير مرتهن بمصالح متقلبة بينما سلامه يدوم ولا يقدر العالم ان ينزعه منا.
وقد تجلت هذه القيم فى التحرير يوماً، حين خرج المصريون عن ذواتهم الى رحابة الوطن، فقبلوا بعضهم بعضاً وارتفعوا فوق انحيازاتهم الضيقة، حين اختاروا المصالحة طريقاً والتحرير هدفاً والسلام منهجاً، حين اصطف المسلم والمسيحى كتفاً بكتف، حين ابدعوا شعاراتهم التلقائية والعبقرية : عيش، حرية، عدالة اجتماعية، أكانوا يستلهمون اركان دعوة المسيح للتكافل والعطاء بلا حدود؟، هل استوعب الشهداء الابرار مفهوم الفداء فكانوا بدمائهم فداء للوطن، الذى أخذ بموتهم حياة جديدة ومجيدة؟، هل ادرك الدكتور احمد حرارة الشاب المصرى اليافع والصامد معنى ان يستبدل البصر بالبصيرة، هل فقد بصره لينير للوطن الطريق؟، أكاد اتسمع معه قول المسيح طوبى لأعينكم لأنها تبصر ولأذانكم لأنها تسمع، أو لعله ومعه كل من ضحوا من اجل الوطن يسمع صوت مصر وهو يؤكد له متمثلاً بالمسيح أن من اضاع نفسه من أجلى يجدها، ومن قدم حياته فداء للوطن وهبت له حياة ابدية حباً بحب وعطاء بعطاء.
ياوليد بيت لحم امنح بلادنا سلاماً تستحقه، ومصالحة تقودها لتحرر حقيقى ومحبة تدوم. |