بقلم: مينا بباوي
تلبية لدعوة التدوين دعماً لقضية مايكل نبيل سند المحكوم عليه بالسجن لثلاثة سنوات بتهمة إهانة المؤسسة العسكرية، أملت علي نفسي هذه السطور والكلمات القليلة عن شخص التقيته سريعاً ذات مرة، تناقشنا قليلاً ولم تسنح لنا فرصة أخرى للقاء أو التعارف.
سطوري هذه عن شخص لم أعرفه ولكني احترمته بقدر ما اختلفت معه شديد الاختلاف. كان لقاءنا الوحيد بعد اسابيع من الإفراج عنه من قبل الشرطة العسكرية بتهمة التهرب من التجنيد .. لم أكن اعرفه ولكني كنت قد سمعت عنه من صديق مشترك كان من أول من علموا بالقبض عليه وحاول قدر استطاعته أن يتدخل باتصلاته لتعيين محامي يحضر للدفاع عنه. كان نظام مبارك أكرم كثيراً مع مايكل نبيل من المجلس العسكري بعد الثورة. فرغم القبض عليه أول مرة بتهمة التهرب من التجنيد على خلفية حملة شديدة الجرأة وغير مسبوقة ضد التجنيد الإجباري تضمنت فيما تضمنت هجوماً لا يقل جرأة على فساد المؤسسة العسكرية، إلا أن اعتقاله لم يدم إلا يومين أو ثلاثة على ما أذكر وافرج عنه بإعفاء من التجنيد لأسباب صحية حسب ما علمت (كان إعفاءه من التجنيد مفاجئة لكل ما تابع قضيته وقتها).
كان يوم التقيته جالساً مع بعض الأشخاص في منضدة مجاورة لمنضدتي في مطعم الجريون في وسط البلد. دار بينهم حواراً ساخناً حول الأديان تخللته نقاشات واستشهادات علمية. اطرقت السمع واسترعى انتباهي بعض المعلومات العلمية غير الدقيقة فتدخلت ثم انتهى النقاش الجماعي إلى نقاش فردي بيني وبينه (وقتها فقط عرفت أنه مايكل نبيل الذي سمعت عنه من صديقنا المشترك) استمر نقاشنا لدقائق قبل أن ينهيه بشكل حازم وقاطع (أعتقد أنه كان يود اللحاق بصحبته ممن جاء للسهر معهم وكانوا قد تركونوا انتقلوا الى منضدة أخرى حين احتدم النقاش بينه وبين المجموعة).
ترك يومها لقائي به انطباعاً استطيع اختصاره في أنه شخص "شديد العناد، شديد التشبث برأيه، واثق فيما يعتقد أكثر من اللازم لدرجة أنه لا يقدر على تحييد تحيزاته للدخول في نقاش موضوعي بغرض الاكتشاف والمعرفة لا بغرض اثبات ما يؤمن به" ... كان هذا انطباعي يومها.
لم نلتق بعدها حتى سمعت باعتقاله ومحاكمته وسجنه. في خضم القضية والمحاكمة شاهدت الرسالة التي سجلها أثناء الثورة متوجهاً للإسرائليين. وبقدر ما رأيت في تصرفه اندفاعاً غير محسوب حركته الحماسة السياسية على حساب اعتبارات الحنكة والدهاء السياسي، بقدر ما تأكدت يومها وأثبتت لي الأحداث فيما بعد قدر الذكاء والفطنة والجرئة السياسية الهائل الذي يتمتع به هذا الناشط السياسي الشاب.
كان مايكل نبيل في مناداته بإلغاء التجنيد الإجباري من الجرأة والشجاعة بل والألمعية السياسية بأن دافع عن قضية خلافية كفيلة بأن تطيح بمن يتطرق لها مجرد التطرق وقد تودي بحياته، فما بالك تبنيها والتدوين عنها والمناداة بها. كان مايكل محقاً في دعوته التي لا يمكنني إلا أن أتفق معها بحكم حياتي في فرنسا وإيماني بنفس القيم والتصور للدول والجيوش الذي تبنته أغلب الدول المتقدمة في العالم.
لكن ما أثبت لي بعد نظره وفطنته السياسية وإن شابها اندفاع وحماسة زائدة، كانت رسالته التي وجهها لإسرائيل أثناء الثورة. فهم مايكل دون كثيرين غيره من السياسيين أن معركة الثورة لا تلعب فقط على أرض التحرير ولكن خيوطها في يد قوى خارجية وأطراف سياسية إن هي عادتها أو توجست منها، من الجائز أن تقضي عليها. فهم مايكل بفطنة سياسية يحسد عليها أن هناك رسالة يجب أن توجهها قوى الثورة بوضوح للأطراف الدولية التي قد تقف عائقا في طريق نجاح الثورة عن طريق دعم مبارك أو التجاوز عن انتهاكاته.
اختلفت مع سوء تقديره في توجيه هذه الرسالة بطريقة مباشرة للإسرائيليين وكنت ولازلت أعتقد أنه قد أعوزته الحنكة والحصافة السياسية في توجيهها بهذه الطريقة. واعتقد أن حماسته وصدقه الشديد مع نفسه جعلته يتخذ بتلقائية الموقف والتصرف السياسي الذي هدته إليه فطنته السياسية وقراءته لما بين سطور اللعبة. ولكنه نسي أو فاته في رأيي أن يدرك أنه لا صدق في السياسة وأن السياسة حيلة وتورية ومواقف ورسائل ملتفة وغير مباشرة قبل أي شيئ.
كانت هذه الرسالة واحدة من مواقفه التي دفع ثمنها غالياً بتخلي القوى السياسية عنه وتقديمه بكل جبن وخسة أضحية على مذبح استرضاء المجلس العسكري وعدم معاداته (على أمل تكشف فيما بعد مدى سخافته وغباءه) نظير أكذوبة دعمه للثورة ومطالبها والتي لا يمكن إلا أن يوصف كل من اعتقدوا فيها بالغباء أو بالتغابي السياسيي المدقع.
اختلفت معه ولكني احترمته وزاد إعجابي بجرأته السياسية وبفطنته وحسه السياسي المرهف إلى أن قرأت رسالته الأخيرة لرئيس الأركان سامي عنان، فاحترامي وإعجابي به رغم اختلافي معه كان قبل هذه الرسالة بمقدار، وأصبح بعدها أضعاف ما كنت أكن له.
قرأت رسالته وكأني أقراً لمناضل سياسي كبير (أقول "مناضل" لا "كاتب" وأقصد كل القصد استخدام هذا الوصف دون ذاك) اجتمعت له من أدوات البديهة السياسية والبلاغة اللغوية وترتيب الأفكار وبراعة الصياغة وانسياب المعاني وذكاء العرض ما جعله يكتب رسالة هي في رأيي من أبلغ وأجرأ وأذكى ما قرأت لأي من المشاركين أو المؤيدين للثورة رغم اختلافي مع الثورة الذي لا يخفى عن كل من يعرفونني. لكن الأهم هو أن معيار بلاغتها وجرأتها وذكاءها ليس فقط في صياغتها، فما كتب (بضم الكاف) من يوم قامت الثورة على أيدي مؤيديها ومنظريها لا حصر له. لكن مايكل لم يكتب لينظر ولم يكتب ليدافع أو يتشدق، لكنه كتب "ليفعل" ... رسالته ليست مقالة أو خطاب سياسي، رسالة مايكل نبيل "فعل سياسي". هي دعوة إن وصلت إلى من وجهت له سوف تؤثر حتماً بقدر كبر أو صغر في الأحداث. لن تمر كلماتها مرور الكرام حتى ولو انتهت في صفيحة قمامة مكتب سامي عنان لو أنه قرأها ثم مزقها.
إنني إذ وددت أن أسجل في هذه السطور في عجالة انطباعاتي عن مايكل نبيل سند الذي لم أعرفه، تمنيت ومازلت أتمنى أن يقرأ سطوري هذه يوماً ليعرف أنني رغم شديد اختلافي معه في كثير من أراءه ومواقفه السياسية وغير السياسية، إلا أنني أحترمه وأسجل إعجابي بذكاءه وفطنته بل والأهم بجرأته وصدق نضاله السياسي ودفاعه عما يؤمن به دون موائمات ودون تزييف.
ما يحز في نفسي هو أن مايكل نبيل سند يناضل في ميدان كل من فيه جبناء حتى وإن ادعوا الفروسية، وأرض المعركة لا تحتمل مناضلين في صدقه ولا مكان لهم فيها، لذلك كان يجب أن يدير له الجميع ظهرهم لأن صدقه وشجاعته يحرج الأشاوس ويخرج على قواعد اللعبة.
الحرية لمايكل نبيل سند ـ لا للمحاكمات العسكرية للمدينيين ...