بقلم: أحمد صبح
في الخامس عشر من مارس عام 1938م تم عقد زواج الأميرة "فوزية" ابنة الملك "فؤاد"، على ولي عهد إيران "الشاه محمد رضا بهلوي". ومع أن الدستور الإيراني كان ينص على أن زوجة الشاه إيرانية المولد، لكن "رضا شاه"- والد العريس- قد تجاوز ذلك وفاتح "القاهرة"، ولاقى استحسانًا للفكرة في شخص "على ماهر باشا"- رئيس الديوان الملكي-، وكان هذا رجل الملك أيام حكم "فؤاد". ومما جاء في مذكرات "علي ماهر" عن تلك الأيام "إن للملك فاروق أربع أخوات، أفليس من الممكن أن يصبحن وسيلة لنشر نفوذ مصر في المنطقة، وبقليل من الحظ يمكن أن توجد لهن عروش مختلفة، على أن تكون طهران هي البداية؟". وقد احتفت الأوساط العامة في "إيران" و"مصر" بهذا الزواج، وأُقيمت حفلات الأعراس في كلا البلدين، واستمرت الأفراح بـ"مصر" لأيام كثيرة، وكان الشيخ "محمد تقي القمي" يُذيع الفارسية من محطة إذاعة "مصر" في أغلب تلك الليالي عن أهمية هذه المصاهرة، وانعكاساتها المستقبلية على الفرس والعرب معًا، وقدت مصر للعروس- بهذه المناسبة- تحفة من الماس والذهب يبلغ ثمنها خمسين ألف جنيه مصري، وبلغ ثمن علب الملابس والحلوى التي وُزعت على الحضور زهاء عشرين ألف جنيه مصري، وأهدى العريس لشيخ الأزهر الذي قام بإجراءات عقد القران شالًا ثمينًا جدًا. وبمناسبة هذا الزواج أقامت "مصر" موكبًا للزهور، وأعدت جريدة "البلاغ" عَرَبة زُيِّنَت بالورود، كُتب عليها هذه الأبيات للشاعر "علي الجارم":
هَنِّ إيران بالقران ومصرا *** واملأ الكون بالبشائر عطرا
وانثر الشعر للعروسين زهرا *** وانظم الزهر للعروسين شِعْرا
بزغت في مشارق المجد شمسا *** وبدا في مطالع السعد بدرا
شرَف يبهر السماء وعــز يمتطي هامة الكواكب زُهْرا
سطع " الفوزُ " و "الرضا" بين تاجين *** أعادا للشرق عزًا وذِكْرا
وتلاقى مجد بناه بنو النيل *** بمجد بناه دارا وكِسْــرى
تهنئات "البلاغ" وهي ولاء *** صورتها يد الطبيعة زَهرا

وفي غمرة الاحتفالات بزواج الأميرة "فوزية" من العاهل الإيراني أُقيم حفل ضخم بدار الأوبرا المصرية، غنت فيه السيدة "أم كلثوم" بعض الأبيات من نظم الشاعر "الجارم"، كان منها:

إن مصر وإن إيران في المجد *** تليدًا وطارفًا أخــوان
أكبر ابنُ الحسين أهرام مصر *** وشدا البحتري بالإيوان
سعدا بالقران في عــزة *** الملْك وفي ظل دوحة الفيْنان
فالتقى بالرضا وبالفوز تاجا *** ن وبالود والصفا أمتـان
درة من كنوز مصر أضاءت *** فوق تاج الملوك من ساسان

وتضمنت الصحف المصرية الصادرة في ذلك الحين نبأ الزواج باستبشار كبير، ونُشرت البحوث والدراسات التي تشيد بالعلاقات المصرية- الإيرانية عبر التاريخ. ومما جاء في مقالة الكاتب "محمد فهمي عبد اللطيف" في "الرسالة" العدد (296) الصادر في 6/3/1939 م:
"اتصل المصريون بالفرس اتصال محبة ووفاء واحترام، فتمكن الود بين الشعبين من قديم لترتبط مصر وفارس برباط المصاهرة الكريمة، أعني رباط القرابة والنسب، والود والألفة، وإنه لوضع ثابت في الاختلاط بين الشعبين، وعهد جديد في التعاون بين الأمتين الخالدتين، وميثاق صريح يؤكده دعامتان "دين" يوحّد بيننا في المشاعر والأفكار والعواطف والميول والأخلاق والعادات، و"ثقافة" مستمدة من تعاليم الإسلام، وسياسة القرآن وكل ما خلف العرب من أفانين العلوم والمعارف، والدين والثقافة عند علماء الاجتماع هما أهم المباديء التي تحفظ كيان الأمم، وأقوى العناصر في تكييف حياتها ورقيها، أليس بفكرة الإسلام وحدها استطاع محمد صلوات الله عليه أن يجمع شمل تلك القبائل المتفرقة المتخاذلة، وأن يخلق منهم تلك الدولة العظيمة التي دوخت العالم، وتبوأت أرفع مكان في التاريخ؟!
ولاشك أن الشرق اليوم هو اللقمة السائغة التي تتقاتل على التهامها أمم الغرب، ولا شك أنه لا طاقة للمسلمين بدفع هذا الخطر، ولا قائمة لهم إلا بتبادل الشعور والعواطف، وإحكام الروابط والصلات، والرجوع إلى وحدة إسلامية لا مناص من الرجوع إليه كما يقول الشيخ المراغي، ولا شك أن هذه الصلة الوثيقة بين مصر وإيران قد قربت الوصول إلى تحقيق هذه الوحدة، وستكون إن شاء الله طالع سعد للإسلام والمسلمين، وتوثيقًا لعرى القومية بين أمم الشرق التي هددها جشع الغرب ونفوذه، وأنهكها طول التفرق والانقسام.

"أميرة مصر، وأمير إيران يقترنان"، ألا إنه لبراعة استهلال للعام الجديد وطائر يمن للشرق والإسلام، ورغبة أمتين كريمتين في الخير والمحبة، ثم هو صلة بين قلبين طاهرين، وعاطفتين نبيلتين. نسأل الله أن يحوطه برعايته، وأن يقرنه بالسعادة والبركة، وأن يحقق به الآمال والرغبات، وأن يجعله وسيلة الخير والسلام، لغاية الخير والسلام."

وجاء في مقالة للكاتبة "زينب الحكيم" مخاطبة الأميرة "فوزية":
"هنيئًا لك يا ابنة فؤاد المصلح، الذي شمل عطفه وبره ورقيه مصر وغير مصر من بلاد المشرق والمغرب، وعمّ نور عهده الذهبيّ فتبدد عن العقول ظلال الجهل وعن النفوس كابوس الملل... فيا أيتها الوديعة العزيزة أنتِ خير من يفهم رسالة مصر وخير من يمثل بلاده الخالدة، فتزدادين منعة وعظمة من رائع خيال إيران، ورفيع فنها، وواسع علومه وفلسفاتها".

واعتبرت الرسالة حادث الزواج هذا حادثًا سعيدًا في تاريخ الإسلام والشرق، وأنه سيكون له أكبر الأثر المحمود في تبليغ الرسالة المحمدية مرة أخرى إلى النفوس العانية. وجاء أيضًا: "إننا نرجو أن يكون للإسلام والسلام والمدنية من نقلة الأميرة فوزية من القاهرة إلى طهران، ما كان لها من نقلة الرسول الأعظم من مكة إلى المدينة!".

وبعد إكمال مراسيم الخطبة، توجّه "شاه إيران"- ولي العهد يومذاك- إلى زيارة الأزهر الشريف. كما زار المباني الأثرية في داخل الأزهر. وكان لسعادة "خالد حسنين بك" القيام بدور المترجم بين شيخ الأزهر و"شاه إيران". وقد زار سمو الأمير "الزوج" إمام الأزهر في مكتبه، والذي التقاه بحفاوة كبيرة، وتناول معه بعض المرطبات، وكان بصحبة الأمير رفعة شريف صبري باشا. وقبل انتهاء الزيارة نهض صاحب الفضيلة الأستاذ الإمام، وألقى كلمة من كلماته القيمة قام بترجمتها "شريف صبري باشا".

وكانت جماهير الناس والطلبة محتشدة في ميدان الأزهر تهتف لسمو الأمير، فدعا فضيلةُ الأستاذ الإمام سموَّ الأمير للإطلال على الميدان ليرى مبلغ احتفاء أبناء الأزهر به، فلبى الدعوة وأومأ بيده محييًا جموعهم الغفيرة.

ثم غادر سمو الأمير إدارة الأزهر مودعًا. كما استقبل بأكبر مظاهر الإجلال في وسط هتاف يشق عنان السماء من طلبة الأزهر وجموع الشعب الزاخرة في حي الأزهر. ولابد لنا هنا من نشر كلمة حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الإمام الشيخ "المراغي"، فإنها فوق ما احتوت عليه من عبارات التحية والاحتفاء بالزائر العظيم، اشتملت على نبذة تاريخية جليلة القدر في مبلغ ما عمله الإيرانيون في مجال العلوم الإسلامية، وما خلفوه من ثمرات عقولهم فيها، حيث قال الأستاذ الإمام شيخ الأزهر:
"حضرة صاحب السمو الإمبراطوري: إن من دواعي الغبطة والسرور أن أرحب بسموكم باسم الأزهر الشريف، أقدم جامعة في العالم، وأكبر معهد إسلامي، يرحب الأزهر بسموكم لما اشتهرتم به وعُرفتم به من الثقافة العالية والآداب الكاملة، والشخصية المحبوبة. ولأنكم ولي عهد مملكة من كبريات الممالك الإسلامية وأعرقها في الحضارة والمدنية. ولأن لبلادكم الخالدة في المجد ذكرًا مجددًا كل يوم في الدراسات الأزهرية، فما من علم من العلوم الإسلامية إلا ولرجال بلدكم فيه أثر مشكور وعمل محمود، ولايزال علماء الأزهر وطلابه يذكرون لهؤلاء الرجال فضلهم، كلما اقتبسوا من آرائهم القيمة، ما يضيء لهم السبل في البحوث العلمية.

فصلتنا ببلادكم يا صاحب السمو ليست حديثة العهد، وإنما هي صلة قديمة يعرفها علماء الإسلام منذ فجر الإسلام، ولكن الله سبحانه أراد أن يحكم الروابط بين البلدين، ويزيد في وثاقة الصلة بين الشعبين، فكانت هذه الرابطة الكريمة- رابطة المصاهرة السعيدة- التي شرّفتم يا صاحب السمو مصرنا من أجلها، خير ما تتوثق به أواصر المحبة، وتتم به دواعي الألفة والمودة.

يا صاحب السمو الإمبراطوري: في الوقت الذي تنبه في المسلمون إلى ضرورة إحكام الروابط والصلات بين الشعوب الإسلامية، نبتت هذه الفكرة السامية، فكرة المصاهرة الميمونة إن شاء الله، فتوثقت بها الصلات بين أمتين عظيمتين من أمم الإسلام، وقربت الوصول إلى وحدة إسلامية لا مناص من رجوع المسلمين إليها. وإذا كان القرآن هو إمام الجميع، وكان بيت الله في البلد الأمين هو قبلة الجميع، وجب أن يكون المسلمون في جميع الأمم أخوة في دين الله، لا يفرق بينهم تعدد المذاهب واختلاف الآراء، على أن نفسي تحدثني بأنه كلما زاد العرفان وقوي الإيمان وخلصت النيات لله سبحانه، ضاقت مسافة الخلف في الرأي، ورجع المسلمون إلى القرآن يستهدونه، ويتلقون عنه عقائدهم وشرائعهم، وإذ ذاك يلمس المسلمون السعادة كاملة ويستمتعون بلذة الأخوة في الله وفي دين الله.. ". انتهى.

وبعد، هكذا كانت العلاقة بين "مصر" و"إيران". فـ"مصر" حاضرة في الضمير الجمعي الإيراني، بل يكفي أن "مصر" سفيرها الدائم هو الشيخ "عبد الباسط عبد الصمد". وإذا كان القرآن لم ينزل في "مصر"، إلا أن العالم يشهد أنه قد قُريء فيها، و"مصر" وإن دخلها الإسلام بعد الجزيرة إلا أنها قبلة العلم في العالم الإسلامي. فلا يمكن التشكيك في التاريخ المصري العظيم، ولا في التاريخ الإيراني العظيم. فـ"إيران" امبراطورية قديمة، و"مصر" كذلك، والعظماء لهم لغة يتعارفون بها تختلف عن لغات الآخرين، والإسلام لم يقض على حضارة "مصر" أو "إيران"، و"مصر" المتسامحة فيها شوارع باسم "إيران"، وكذلك "إيران" بها شوارع بأسماء مصرية. أذكر ذلك ولا أنسى الجانب الإنساني لـ"إيران" بإيوائها لخمسة ملايين لاجيء أفغاني، وبمساعدة حركة حماس السنية. فياليت أناسًا لا همّ لهم إلا تفكيك الأمة الإسلامية بناء على تحالف تم منذ عقود بين الكاهن والحاكم، فيجعلون الدين تابعًا لأهواء الحكام، ليت هؤلاء يتقون الله في الناس، ويرعون الإسلام في المسلمين، ولا يصرون على جعل العدو من داخل الديانة الواحدة!.. إنهم يتحدثون عن قضايا قال التاريخ فيها كلمته، ولم تُخلق لنا ولم نُخلق لها "تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ".

ماذا يستفيد من يعمل على تمزيق أمته- سواءً كان في الفضائيات أو على المنابر- من أجل فقه أعوج وضحل وأحادي الجانب ومنغلق جاءنا من خارج الحدود؟؟.. أيها الناس، إن حاضر هذه الأمة في مستقبلها وليس في ماضيها، والإسلام ليس عَودًا على بِدء، وليس هو الثورة على المستقبل، وليس هو استقالة الحاضر. فتعالوا بنا نصنع التاريخ، بدلًا من دراسة التاريخ التي مللنا منها. تعالوا بنا نتعامل مع النصوص بدلًا من التأمل فيها. انظروا إلى عظمة "مصر" و"إيران" كيف عاش الشعبان؟ وكيف تزوج أمير "إيران" الشيعي بالأميرة "فوزية" السنية وقام بعقد قرانها إمام الأزهر؟ لتعلموا أن من يفرّق المسلمين يعيش في الجانب الخاطيء من التاريخ "وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً .."