بقلم: محيي الدين إبراهيم إسماعيل

شادي سرور .. فنان مصري شاب أصبح اليوم بعد ثورة شباب مصر في 25 يناير 2011 على رأس مسرح الشباب في مصر، أصبح مديراً له ليكون مسرح الشباب وهو قطاع مهم من قطاعات مسرح الدولة ولأول مرة منذ ثلاثين عاما هي حكم " مبارك" اسما على مسمى حيث آمن الفنان شادي سرور بأن مسرح الشباب هو في معناه رحم نجوم مصر لتفريخ مبدعي المستقبل فآثر أن يعطي للشباب ولجيل الثورة من الفنانين دورهم الحقيقي ليبدو لنا مسرح الشباب في أول أعماله بعد الثورة وفي ثوبه الثوري اسماً على مسمى بعرض يتسم بالجرأة والحيوية والأصالة في آن واحد، وهو عرض "حكاوي" للمخرج الشاب أسامة رؤوف.

والعرض المسرحي "حكاوي" هو عرض من نوعية العروض الإستاتيكية حيث تكاد تختفي فيه حركة الممثل على خشبة المسرح لكونه يعتمد على "حاكي" لكنه ورغم ذلك يتحرك بالمشاهد داخل وعيه الحي فيستفز مشاعره ووجدانه ومن ثم ضميره لنجدنا في نهاية العرض وقد تأصلت بداخلنا حالة من الانتماء للوطن رغم اختلاف نوع الولاء لله، وحيث الولاء لا يقبل الشرك عكس الانتماء الذي لا ينمو إلا بالمشاركة.

من أول لحظة في العرض يحتويك ديكور العمل، تصبح جزءاً من نحت ذلك التابلوه الجميل الذي أتقنت تخيله وتصميمه وتنفيذه ببراعة مهندسة الديكور الفنانة مها عبد الرحمن، ولاشك أن الديكور أحد أبرز ملامح نجاح هذا العرض لكونه دفع بالمتفرج أن يشعر من البداية كونه أحد أبطال المسرحية وجزء لا يتجزأ منها لا يمكن أن يكتمل العمل بدونه لكون الديكور رغم بساطته يتمتع ببساطة وانسيابية السهل الممتنع حتى ليتراءى لك أن مصمم الديكور فلاح ابن فلاح لكونها لم تنسى حتى أدق التفاصيل في البيت الريفي الذي يمتلكه فلاح متواضع كل رأس ماله عبارة عن ثروة من الفن الشعبي والحكايات تدفع الناس لأن يلتفوا حوله كل ليلة في داره ليستمعوا إلى غنائه وحكاويه دون ملل لتميزه - رغم فقره – في أن يجتهد ليبدو منزله البسيط أرحب وأدفأ من سرايا الأغنياء، وحيث راعت "مها" أن تتوائم الألوان مع البيئة ومع الروح الشعبية المصرية حتى وضح إبداعها في تصميم الديكور وهو لا يحمل أي جملة نشاز، ولكن على الرغم من عبقرية الديكور وثرائه الفني والبيئي - من وجهة نظري - إلا أن استثماره دراميا – للأسف - جاء فقيرا للغاية داخل العمل الدرامي أو ربما لم يستثمر درامياً على الإطلاق.

برع المخرج أسامة رؤوف لا شك في اختيار العناصر الحية داخل العرض وهي مسألة تحسب له بتميز، فالعرض استاتيكي كما سبق وأشرت، محدود الشخصيات ( حاكي وأربعة منشدين وعازف ناي ) ومدته لا تزيد عن 35 دقيقة ومن ثم فإن أي خطأ مهما كان صغيراً فهو بمثابة كارثة سيستشعرها المشاهد لا محالة وستدفعه حتماً لأن يزهد أو يمل لذا فقد أختار أسامة رؤوف شخصياته بعناية شديدة فظهر عازف الناي منفرداً وكأنه أوركسترا شعبي كامل أما المنشدين الأربعة محمد إسماعيل وصليب فوزي وأيمن صبحي وباسم وديع فقد كانت أصواتهم إلى جانب براعة الدق على الدفوف من الأصوات العذبة القوية والواثقة أما طريقة أدائهم في الغناء والإنشاد فكانت تدل على وعي ورقي فني عال حتى أننا كنا نستمع لبعض الأبيات الشعرية الصعبة باللغة العربية الفصحى وهي تنساب من حناجرهم بسلاسة وعذوبة لنرددها معهم من شدة بساطة نطقهم لها رغم صعوبتها، أما الترانيم القبطية الكنائسية فكانت وكأنهم فراعنة حقيقيين لا يجيدون النطق إلا بالمصرية القديمة التي ورغم عدم فهمنا لها إلا بعد إعادتها مترجمه مرة أخرى كنا نستمتع بها أيما متعة ربما لكونها كانت تخاطب بداخلنا كل الجذور التي أنبتتنا كشعب له تاريخ ويجتهد بعد ثورته في أن ينحت له مستقبلا نحتويه فننهض و يحتوينا فنطمئن، لذا فقد ظهر بجانب اندهاشنا من روعة أداء المنشدين بالمديح النبوي للرسول الكريم محمد عليه الصلاة والسلام وامتزاجه بترانيم الكنيسة الداعية للحب حالة من السكينة وكأننا في محراب صلاة داخل قدس الأقداس مصر.

أما نقطة نور العرض فكان الفنان رمضان خاطر، ذلك الحاكي الفلاح أو الفلاح الحاكي، فأنا لم أكن أتصور يوماً أن أجلس ولو لمدة خمس دقائق أمام رجل جالس على ( دكة فلاحي ) ويحكي لي وأنا استمع له دون أن ينتابني الملل أو الضجر، لكن الفنان رمضان خاطر يجبرك طوعاً أن تجلس أمامه لمدة 35 دقيقة كاملة دون أن تزهد فيه بل تهتز من الضحك تارة ومن الانفعال تارة أخرى وسط تلاحق أنفاسك التي لا تكف عن الضجيج من أثر انفعالك بهذا الفنان المرتجل الذكي.

الفنان رمضان خاطر لاشك شديد الحضور، وهو يتأمل مشاهديه طوال العرض وليس فقط مشاهديه هم الذين يتأملوه، بحيث إن وجد أن المتلقي أوشك ولو للحظة على الهرب منه قفز في عقلك مرتجلا بعبارة أو بحركة تمثيلية مجتهدا ببراعة في أن يجعلك لا تكف عن الحركة فيستعيدك ويكمل معك مشوار حكاياته وهو بذلك يمارس نمو مشاعره بمشاعرك حتى يصبح كلا الوجدانين أنت وهو كضفائر العذارى تتداخل في رقة وتنساب في وحدة واحدة حتى تصل بنا إلى حدود الجمال.

من أهم مشاهد هذا العرض ( ماستر سين ) ذلك المشهد الأخير، هذا المشهد الذي تبدو فيه الحركة المسرحية ( الميز انسين) واضحة ومقصودة من المخرج، فقد راعى المخرج أن يقف المنشدان بالمديح النبوي للرسول صلى الله عليه وسلم ( محمد إسماعيل وأيمن صبحي) في جانب وهم يمدحان النبي وفي جانب آخر وقف المنشدان ( صليب فوزي وباسم وديع ) يشدوان بالترانيم الكنائسية وهما يرتديان الأوشحة الموسومة بالصلبان على صدورهما حتى تتداخل النغمات الصوفية الإسلامية مع الترنيمات الكنائسية في هرموني واضح وعذب يذوب فيها المنشدون عشقاً في الله وكأنهم في غيبوبة الوعي الكبرى فيتحركون من وراء الحاكي ( رمضان خاطر) حتى يحيطون به في شبه نصف دائرة ويختلط كل منهما بالآخر حتى يندمجوا في بعضهم البعض فلا نفرق – نحن المشاهدين – بين من هو منهم المسيحي ممن هو فيهم المسلم وتظل تتعالى حناجرهم بالمديح النبوي والترانيم الكنسية القبطية وتتعالى وتتعالى حتى تصل الحناجر أقصاها لينتهي العرض وتطفأ الأنوار وهو بذلك ( أسامة رؤوف ) وهو مخرج مصري قبطي، وقد تعمدت أن أذكر كلمة قبطي تعرض في هذا العمل للوجدان الشعبي المصري بتصور مزج فيه المسيحي بالإسلامي بالموروث الشعبي ليكشف لنا بحرفية أنه لا خلاف مابين الكل داخل وجدان الفلاح المصري صاحب الأرض الحقيقي ويرسل لنا برسالة مفادها أن لا فرق بين مسلم ومسيحي على أرض مصر، لكون المسلم والمسيحي نسيج واحد ومن نفس طينة نهر النيل الذي مازال يسقينا منذ الأزل وحيث الولاء في هذا البلد الطيب وإن اختلفت طريقة التوجه هو لله الواحد الأحد أما الانتماء فواحد ولا اختلاف فيه لمصر.

بقى أن نذكر الباقي من مبدعي هذا العرض الجرئ وهم المخرج المنفذ مصطفى السيد وقام بعمل الافتتاحية الموسيقية فرقة إبراهيم القط الشعبية التي صاحبت الجمهور من خارج صالة العرض وحتى دخل الجمهور صالة المسرح باحتفالية فنية شعبية رفيعة المستوى وحيث كان أهم أبطالها المزمار البلدي والنقرزان.