بقلم:
دكتور مهندس/ ماهر عزيز
وصل السيد الرئيس إلى مطار القاهرة فجراً بعد توتر شديد اجتاح مصر ترقباً لدرء خطر نزول أذناب القوى المعادية لمصر إلى الشارع لاختطاف الوطن وإشاعة الفوضى، مندسين وسط مواطنين بسطاء طحنتهم الفاقة وقسوة الظروف، غُرِّر بهم للخروج إلى الشارع لمناشدة الدولة النظر إلى مطالبهم العادلة في الكرامة الإنسانية، ضد الغلاء وصعوبات الحياة الحاضرة..
وأمام افتضاح الإعلام المعادى المكثف، والكشف عن خيوط المؤامرة الدولية للإيقاع بالوطن وسحقه، تبينت حقيقة الدعاوى التي بدت بريئة في البدء لأجل البؤساء والكادحين، وانتهت شراً مستطيراً يتأهب بالفوضى والغدر ونار جهنم لتحطيم الوطن.
كان التوتر قد بلغ أوجه حرصاً على الوطن وأمانه وأمنه، فبدأت الأجهزة السيادية تتحسب للأمن.. وبدت السيطرة على الخطر جلية.. فتأهبت القوى الوطنية للتعبير في المقابل عن قدرتها الكامنة لحماية الوطن، وثقتها في القيادة السياسية والحكم..
في فجر هذا اليوم وصل السيد الرئيس إلى أرض مصر، ووجد حشوداً وطنية تستقبله بالحب والثقة والرجاء.
خفف الرئيس عن الناس توترهم، وأكد لهم أن مصر قوية بشعبها الذى لم يعد ممكناً خداعه، وقال بالحرف الواحد لشعب مصر كله : "لا داعى للقلق".
لكننى.. سيدى الرئيس.. رغم طمأنتكم يكاد يقتلنى القلق..
يكاد يقتلنى القلق لئلا تنسينا استعادة الثقة (1) الإصحاحات الجوهرية للسياسات،
و(2) الإصلاح الهيكلى للبنى المانعة للتقدم، و(3) إنقاذ المسحوقين.
مصر على شفا خطر عظيم لو لم تدفع حزمة متضافرة من الإصحاحات البنيوية للهياكل القائمة..
عشرة إجراءات عاجلة تنتظر التنفيذ الفوري دون تأخر ودون إبطاء..
والإصحاحات الحتمية للسياسات السائدة تتقدم في الأولوية:
فالمطلوب على الفور حزمة متكاملة من الإجراءات التي تحقق انفراجة نسبية لمعايش المستويات الدنيا والوسطى.
هؤلاء هم الذين رغماً عنهم فكروا في الخروج إلى الشوارع يأساً من الوصول إلى الخبز والعدالة..
فالمستويات الدنيا لا تجد قوت يومها..
والمستويات الوسطى ضاقت عليها الحياة ولم تعد تترك لها منفذاً..
هؤلاء هم الذين سُدَّت دونهم السبل، فلم يكن أمامهم سوى الانتحار أو الموت جوعاً.. خرجوا لعل الدولة تنقذهم وتحييهم..
وقد عبر أحدهم في التحقيقات: "نزلت فاكر هايزودوا المرتبات"..
إن أول معاول الإصحاح يجب أن يتجه إلى كل الذين يعانون شظف العيش، ليحفظ لهم الحياة الكريمة والعدل، وليسحق جملة واحدة وإلى الأبد مراهنة الأعداء عليهم.
هؤلاء جميعاً ينتظرون الآن برامج اقتصادية واجتماعية وإنسانية متكاملة للحماية والدعم.
2. تحرير الأعمال
فإذا كان الجيش هو درع الوطن وحصنه الحصين لن تكون مهمته بالتأكيد ضبط البرامج الزمنية للمشروعات ومحاصرة الفساد المالى..
ضبط البرامج الزمنية للتنمية الوطنية مسئولية رواد المشروعات بمحاسبيات صارمة وشفافة ومعلنة..
ومحاصرة الفساد المالى مسئولية الأجهزة الرقابية بمشارطات العدل والحزم والحسم والصرامة..
لكن الجيش يتعين أن يرفع يده فوراً عن المشروعات، ويعود لمكانته السامية ودوره الرئيسى في حماية الوطن وحدود الدولة، وحماية الدستور والقانون والهياكل الوطنية للحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
إن عودة الجيش لمهامه الدفاعية الخالصة ينأى به مطلقاً عن مظنة التطاول عليه في أي حين..
إن تحرير الأعمال من الوجود المكثف للجيش فيها صار مطلباً ملحاً لقطاع الأعمال والمشروعات في الدولة..
إن كارثة مروعة تنتظر الاقتصاد المصرى عاجلاً لو استمر الجيش في قطاع الأعمال والمشروعات على النحو الراهن.
3. تحرير الرأى
تفقد الدولة عقلها المفكر الحر لو انعدم رجال الرأي والفكر فيها، ويؤثر ذلك بتقهقر شديد لغياب النبراس الموجِّه للوطن بعيداً عن العثرات..
وإنها لمأمونة هي الدولة التي تزخر برجال الرأي والفكر فيها لأنهم يقدمون رؤى النقد والإصحاح والرشاد نحو الأمن والأمان والتقدم باستمرار.
تخسر مصر خسارة فادحة لو لم ترفع القيود المفروضة على الرأي الحر والفكر الحر مهما كان ناقداً وصريحاً..
والحاجة ماسَّة الآن للإفراج الفوري عن كل معتقلى الرأي والفكر دون خونة الوطن الثابتة خيانتهم بوقائع دامغة..
الحاجة ماسة كذلك لإطلاق رؤية شفافة تؤكد ترحيب الدولة والحكم بكل الآراء الحرة والأفكار المستنيرة، التي تومض بقوة الآن في ظلمة الفكر السائد بالخرافة، والشعوذة، والتدنى، وتحطيم المرأة، وتكفير الأغيار.. دون قهر ودون تخويف ودون مصادرة.
4. تحرير الإعــلام
صار الإعلام هو أخطر وسيلة تشكيل لحظية للعقول والتوجهات والإرادات، وأقوى موجه يومى للمحتوى الفكرى والوجدانى، فضلاً عن تشكيل العقل الجمعى.
ولذا فإن تغييراً ثورياً جذرياً ينتظره الإعلام المصرى كله نحو الحق والخير والجمال، والإنسانية السامية، والوطنية بعمقها الموضوعى لا الدعائى المفرغ من جوهره.
إن إحلالاً كاملاً لجميع الوجوه الشائعة الآن في الإعلام يجب أن يتم فوراً..
ووجوه مغايرة تماماً من الشباب المثقف النابه تبدأ في الحال ممارسة موضوعيتها التحليلية الأمينة الجريئة الصادقة بعيداً عن جهل الجهال والمهرجين و"المطبلاتية".
إن قيماً إعلامية جديدة يجب أن يشعر بها الناس الآن لتشكيل وعيهم ووجدانهم بشفافية وصدق.
إن عزلاً كاملاً للبرامج الدينية عن كافة القنوات الإعلامية يجب أن يسود، ولا يبقى إلا الآذان للصلاة وآى الذكر الحكيم فى أوقاتها..فالتجربة البشرية شاهدة أنه كلما زادت المواد الدينية كلما فقد الناس ضمائرهم بزيادة النفاق الدينى.. والناس كانوا أفضل بما لا يقاس عندما لم تكن هنالك أية برامج أو قنوات دينية، وذلك كان قريباً بمصر ليس أكثر من بضع عشرات من السنين.
لقد ثبت بالدليل القاطع الذى لا يداخله شك أن هبوط الإعلام وإنحداره خلال السنوات الأخيرة كلها.. وفتح أبوابه على مصراعيها للداعين بالجهل والخرافة والخزعبلات والعنصرية واستباحة المرأة من طفولتها إلى مثواها.. قد أفضى بالمجتمع إلى الإنحلال وانهيار القيم.. وإن عودة عاجلة بالمجتمع إلى إنسانيته الأولى صارت ركناً جوهرياً فى النهضة الشاملة.
5. تحرير الحياة السياسية
دفع حرية سياسية فعلية فى الإطار الديموقراطى الفاعل دون توجيه ودون إملاءات..
لقد أصاب الشلل الحياة السياسية فى مصر كلها حين غابت تماماً الساحة الحرة للأحزاب، والممارسة الديموقراطية السليمة..
إن أحزاباً حرة عفية عفوية يجب أن تنطلق الآن لتدفع الحياة بسورتها وتدفقها فى الموات السياسى الراهن..
إن مجالس نيابية ديموقراطية حقة يتعين أن توجد دون أية إملاءات، ودون توجهات مسبقة، ودون مخططات تبطل فاعليتها وجدواها..
إن بناءً جديداً تماماً يجب أن يعلو بالمحليات بعد هدم البنيات الفاسدة القائمة التى عوقت حتى الآن أى إمكانية للتقدم فى مصر كلها..
قالها أحد مفكرى مصر اللوامع: "المحليات سبب خراب مصر"، لأنها تفتقد للنزاهة والشرف.. وتفتقر للأمانة والواجب.. وليست لها توصيفاً محدداً لمهامها سوى الوظيفة الأمنية فقط، التى حتى هذه لا تؤديها إلا باحتراز مفرط يطوى فى إجراءاته ظلماً وجوراً وافتئاتاً وفساداً مهولاً..
6. إنفـــاذ القانـــون
كل مظاهر الحياة على أرضنا لا تزال يعتورها مثالب متوطنة، وعاهات مستديمة، تصح كلها فى لحظة لو تم إنفاذ القانون!!
فهل تلعن الدولة رخاوتها المهلكة، وتشهر سيف قانونها العاطل؟
إنفاذ القانون هو السبيل الوحيد لاسترداد الانضباط الغائب فى كل مفاصل المجتمع وأركانه..
إنفاذ القانون يتحتم أن يشمل الجميع فى كل الدرجات، وكل المستويات، وكل الفئات، وكل الانتماءات، بالعدل الناجز السريع، وبالمساواة المطلقة دون أية مرجعيات عنصرية..
إن وصفاً مخاتلاً مراوغاً "كأحداث طائفية" يعطل إنفاذ القانون، فيموت العدل، وينتشر الاحتقان بما يهدد الوطن، ويُدُّسُ فى أرجائه انفجارات مهيأة للاشتعال فى كل لحظة.
إن الوصف "بطائفية" هو وصف ذميم وظالم، ينزع عن الوطن وحدته وتماسكه وانسجامه، لأنه يُقَسِّم الناس ويفصلهم ويفتت وجودهم.
الصحيح الصحيح عند أية اعتداءات إجرامية أن تُصَنَّف هكذا.. فالناس على أرض الوطن كتلة واحدة.. وإذا اعتدى معتدٍ من بينهم فهو مجرم يقع تحت طائلة القانون.
وإنفاذ القانون عندئذ هو وحده الذى يعلن هيبة الدولة، وانضباط المجتمع، وسواء الحياة على أرض الوطن..
ولتسقط عندئذ حكمة "التوازنات" الجائرة التى تنشر الظلم والاحتقان، وتقتل العدل وكرامة الأمة.. التوازنات الجائرة التى تتبناها الأجهزة المسئولة فخربت المجتمع بادعاء احتفاظها بالأمن الظاهرى الهش.. يخفى فى طياته الظلم والقهر وسقوط هيبة الدولة وسقوط القانون.. فينتصر المعتدى والظالم والمجرم، بسحق إنفاذ القانون، بما يشيع الرخاوة، وكسر الانضباط، وكسر الاستقامة فى الدولة كلها..
إذا حوسب المجرمون على نحو انتقائى -كما هو حادث الآن- فذلك انهيار مطلق لسيادة القانون، ينشر روح الاستهتار والاستهانة والتبجح فى الخطأ، والخروج على الانضباط والنظام العام، والتغول فى تهديد الدولة فى المجتمع كله..
تسقط هيبة الدولة بسقوط روح القانون والإذعان له فى المجتمع كله.
إن صلاحاً عظيماً للدولة يكمن الآن فى إنفاذ القانون..
وبناءً قوياً ومتماسكاً للمجتمع يتوقف الآن على إنفاذ القانون..
ليتبدل المجتمع تماماً من التهرؤ والتفسخ والانقسام والحضيض، إلى الانضباط والتماسك والرقى والشعور بالعدل.
7. اجتثاث الأصولية والإرهاب
مصر أمام عدو أبدى متفاقم الوحشية والبدائية.. تنين بألف رأس أفعى.. ووحش بألف شيطان رجيم..
وهذا العدو متغلغل الآن بعد عملية التمكين الخطيرة منذ السبعينيات فى كل شبر بأرض مصر.. فى المصالح الحكومية والدواوين.. فى المصانع والمتاجر وبيوت المال.. فى المنازل والشوارع والحوارى والأسواق.. فى أحياء المدن والمحليات والقرى والنجوع والدساكر.. فى الأقسام والمحاماة والقضاء وبيوت العدالة.. فى الصحافة والإعلام والمنابر ومنابع الفكر والتوجيه..
فى كل شبر وكل ذرة تراب هم مشروع للخراب، والأرض لاتزال ملعونة بهم..
لن ينتهى شرهم أبداً..
إذا فاتهم تدمير البلاد وتخريب الوطن وتمزيقه والتمثيل بأهله فى 25 يناير سيحاولون فى أبريل.. وإذا فاتهم أبريل سيحاولون فى يونيو.. وإذا فاتهم يونيو سيحاولون فى أية واقعة يجدونها ملائمة، ويحاولون هكذا أبد الدهر.. أبد الدهر.
لهم فى تاريخهم الأسود هذا العناد اللدود وذلك السعى الخطير، وتدلهم تجربتهم الآثمة بعد ثمانين عاماً من بدايتهم أنهم استطاعوا فى غفلة أن يعتلوا سدة الحكم!!!
فلن يهدأوا أبداً.. ولن يرجعوا أبداً.. ولن يتوبوا أو ينخرطو فى الوطن أبداً.. لكن سيف القانون البتار الحازم -الذى لا يعرف هوادة ولا رخاوة ولا تخاذلاً- هو وحده الكفيل بسحق شرهم إلى الأبد.
عنادهم فى الشر والمؤامرة لن يفارقهم أبداً، لكن الإصلاحات الجذرية للحياة فى المجتمع تقوض هذا العناد تماماً من جذوره..
وأن تلعن الدولة رخاوتها المذهلة.. وتشهر سيف قانونها العاطل كفيل بأن يقى البلاد شرهم.
8. اقتصاد الإنتاج والقيمة المضافة
ظلت مصر عطشى لمشروعات إنمائية عديدة فى شتى المناحى والاتجاهات على مدى يربو على ثلاثين سنة مضت.
لكن الفترة الرئاسية الأولى بعد 30 يونيو شهدت نهضة غير مسبوقة للمشروعات الكبرى فى كل مجالات الاقتصاد، وهذه المشروعات اهتمت بالبنية الأساسية والإسكان والزراعة..
ويتطلع المصريون الآن إلى مشروعات إنتاجية فى المقام الأول.. وهى المشروعات المرشحة للإنجاز فى الفترة الرئاسية الثانية..
نعم.. فالمضى فى تحسينات البنية الأساسية سيستمر.. لكن المشروعات كلها يتعين أن توجه الآن إلى اقتصاد الإنتاج والقيمة المضافة..
وعلى ذلك فالتوسع فى توطين صناعة ناهضة حديثة، وتعظيم القيمة المضافة، يجب أن يكون مناط التركيز الأكبر للمرحلة الراهنة.. والمستقبل.
لتتوقف مرحلياً إذن أية مشروعات خارج نطاق تعظيم الإنتاجية والقيمة المضافة..
ولتكثر مشروعات الصناعة والزراعة والخدمات.. ولتتضافر معها مشروعات إبداعية تتعظم عوائدها للدولة فى السياحة والتجارة والتعدين والثروة البحرية.
ولتتوقف مصر على الفور عن طلب أية قروض جديدة.. فلقد صار عبء القروض قاصماً، وتكلفتها باهظة، وقيمتها مرعبة.. ولسوف يُمَكِّنُنَا اقتصاد الإنتاج والقيمة المضافة من الإقلاع عن الاقتراض مطلقاً.
9. إطلاق التنوير والإصحاح المجتمعى
لن ينتشر التنوير فى المجتمع إلا من خلال: (1) التعليم، و(2) الثقافة، و(3) الإعلام، و(4) الممارسات السليمة، و(5) التشريع الذى يحميها كلها فى اتجاه الإنسانية النبيلة..
يواجه التعليم مشكلة كبرى بوجود منظومة التعليم الموازى إلى جانب التعليم الرسمى.. وتواجه المنظومتان معاً مأزقاً تربوياً بمدخلاتهما الأصولية التى تسجن النشء كله فى وحشية التعليم الداعشى..
لقد نجحوا نجاحاً مروعاً فى شحن التعليم كله بمدخلاتهم السلفية التى تعود للعصور الوسطى فى أزمنة الجهل والعبودية والوحشية والخرافة، وقالوا إن ذلك هو الدين الذى يختلف مطلقاً عن الدين!!
يخدعون بمدخلاتهم الخاصة التعليم كله، ويدسون سمومهم فيه..
فالمسيطر على التعليم كله هو دين غير الدين.. وعقيدة غير العقيدة.. وسموم تنخر فى جسد الفضيلة والحياة.. فَلْيُنْزَع دينهم هذا المغاير للدين من التعليم كله.. وَلْيُنْزَعُوا هم أيضاً كاملاً عنه.
فالدين المنتشر فى التعليم الآن فى جميع المناهج -سواء فى منظومة التعليم الرسمى أو منظومة التعليم الموازى- يربى النشء على الوحشية، والاستهانة بالوطن، والتنكر لكل جهد صالح وبناء.. الدين المنتشر فى التعليم الآن فى جميع المناهج يربى الدواعش، ويبخس كل شئ شريف ونبيل حقه، ويسفه قيم القيادة والجيش والشرطة والوطن، ويعلى صفات الشر والنكران والخديعة والخيانة فى النشء كله..
الدين المنتشر فى التعليم الآن فى جميع المناهج يجب عزله تماماً ليعود الدين الحق إلى دور العبادة فقط نبيلاً سامياً..
الدين المنتشر الآن فى التعليم كله لا يغرس الفضيلة..
وليس هنالك من حل أولا سوى عزل الدين تماماً عن التعليم..
الملايين من المصريين باقون على عدم خذلان الرئيس والتماسك خلفه..
لكن أولئك الملايين إذا وقف وسطهم أصولى جاهل أمى مشعوذ ونادى عليهم الجهاد الجهاد، والوطن تراب عفن.. فى التو ينقلبون..
إنهم فى قبضة آلاف الأصوليين الجهال ينتشرون فى كل مصر، وكل منهم أخطر من ألف قنبلة مهيأة للإنفجار، هؤلاء هم كثيرون من رواد معاهد منظومة التعليم الموازى، وهؤلاء هم كثيرون من المعلمين فى كل منظومة التعليم الرسمى، وهؤلاء هم كثيرون من الدعاة فى بيوت العبادة فى المدن والقرى والنجوع والدساكر.
لن يمكن تصحيح ما هو قائم البتة.. الإصلاح الجذرى هو هدم الهيكل القائم وإقامة هيكل جديد..
وفى هذا الهيكل الجديد للتعليم يتعين أن تُحَلّ مشكلة التعليم الموازى حلاً نهائياً لمستقبل الوطن..
لقد ثبت بالأدلة القاطعة التى لا يداخلها الشك من أمام أو خلف أن الإغراق فى التدين ينشر الرذيلة فى المجتمع، ويضع المجتمع فى قبضة الجهال والمشعوذين.
إجراءات عاجلة مطلوبة لترسيخ الفضيلة فى المجتمع من مداخل الإنسانية السامية، وليس من التدين النفاقى الخديع.
وَلْتَخِفّ جرعة التدين السائدة فى المجتمع، التى تقوده إلى أشكال لم تُسْبَق من الجريمة، لتحل محلها القيم السامية التى أحد منابعها الدين وأحد منابعها الإنسانية السامية..
لِنَحْفَظ للدين مكانته وأثره فى القلوب، وليتراجع التدين النفاقى الشكلى..
فارق كبير بين الدين والتدين..
الدين هو مبادئ اللـه السامية فى القلب تقود الناس للفضيلة..
التدين هو التجارة بالدين فتسود الرذيلة..
والشائع بالمجتمع الآن هو التدين الذى ينشر الرذيلة..
فليتراجع سلطان الجهل والشعوذة، وترفرف أعلام العلم والثقافة والفن على المجتمع كله..
... ...
إن عهداً ثقافياً جديداً يجب أن يبدأ على الفور..
وهذا العهد الثقافى الجديد يستند ولاشك إلى إعادة هيكلة التعليم تماماً..
إن الثقافة لا يمكن أن تزدهر فى مناخ تعليمى رجعى شعوذى متخلف يحض على العنف.
وكذلك الفن أيضاً..
عهد جديد للفن العظيم الذى يهذب النفوس ويرقيها لن يمكنه أن ينمو إلا إذا أزيلت تماماً منظومة التعليم الرجعى الشعوذى المتخلف، الذى يحض على العنف والجريمة..
لكن التعليم إذا انصلح، والثقافة الرفيعة إذا انتشرت، والفن الراقى إذا سرى فى المجتمع..
لن تؤتى جميعها نهضتها الحقيقية إلا إذا وطنتها ممارسات صحيحة حية، تنشرها الدولة ذاتها، حتى لو اقتضى الأمر إنفاذها بتشريع عاجل يحميها.
على هذا النهج عينه أصدرت السعودية قراراً عظيماً:
"الشرطة مسئولة عن إلقاء القبض على كل من يسئ للمواطنات غير المحجبات"..
ونحن تحدث لدينا انتهاكات للإنسانية واسعة كل يوم: فى المترو والشارع والأمكنة.. ولم يفكر أحد بعد أن يصدر قراراً كهذا، بينما السعودية إلى جوارنا تحاول أن تسترد إنسانيتها بعد تحكُّم ثيؤقراطى طويل لم تشهد له البشرية مثيلاً.
ونحن -من عَلَّم البشرية إنسانيتها- مرتدون إلى سلفية ثيؤقراطية باطشة تقتل الإنسانية الحرة فينا..
ولن تسترد مصر إنسانيتها إلا أن تلعن الدولة رخاوتها المُخَرِّبَة، وتشهر سيف قانونها العاطل.
دول عديدة فى العالم وفى منطقتنا اتخذت قراراً جريئاً بحظر الثياب التى تغطى الإنسان من هامة الرأس إلى أخمص القدم، لما تمثله من خطر فادح على أمن الناس وأمان المجتمع، بينما تركنا نحن المجال حتى الآن لكل قاضى أصولى أن يُسْرِفَ فى منع الحظْر رغم الأهوال التى يعانيها الشعب بسببها من خطف الأطفال، وهروب الإرهابيين، وتحركهم الخفى الذى يهدد كل مصر.
هذاه الإجراءات لها رمزيتها فى أمن الناس وأمانهم.. لكنها لا تزال معطلة بعد.. والقانون عاطل تماماً عن الإنفاذ؟
... ...
مهما انتعشت النهضة بمشروعات عظمى كالتى تتم كل يوم على يدى الرئيس الأمينتين فإن الخطر كامن طالما غشيت السلفية الجاهلية الثيؤقراطية وجه مصر..
الناس -ياسيدى الرئيس- يراقبون عن بُعد جهودكم العظيمة، لكن امتلاكهم الحاضر والمستقبل لا يزال بعيداً عنهم..
ولن يكون هنالك ضامن لأمن مصر وأمانها إلا أن يمتلك الشعب كله حاضره ومستقبله، وهذا ما يمتنع الآن امتناعاً مُهَدِّداً للحاضر والمستقبل، طالما امتلكت السلفية الثيؤقراطية عقول الناس وقلوبهم.
لكن سؤالاً خطيراً يبقى لا يزال يُلِّح:
"وحتى لو انحسر الدين إلى دور العبادة.. فمن ذا الذى سيعتلى المنابر ويعلم الناس؟"
حصون الأصولية المنيعة لا تزال تَشْمُخ.. ولن تنجو مصر إلا بدك الحصون..
على أن الإصحاح المجتمعى كله لن يتم البتة إلا إذا أمكن دفع مجموعة مُخططة مُعَدَّة على نحو منسق شامل من برامج وطنية عاجلة لمحاصرة ظواهر الإنحلال والتدنى.
10. تغيير فلسفة الحكم جوهريا تجاه المدنية والحقوقية والحداثة
إن استقراراً حضارياً وتقدمياً لمصر لن يُقَدَّر له أن يكون ويتعمق إلا إذا تبدلت فلسفة الحكم جوهرياً نحو مقومات الدولة المدنية الحديثة.
إن المقومات الأساسية للدولة المدنية الحديثة -كما هو معروف للكافة- هى الحرية، والديموقراطية، والفصل بين السلطات، وفصل الدين عن الدولة، وسيادة الدستور والقانون.
إن المواطنة فى الدولة الحديثة هى عماد السلام المجتمعى وتماسك الأمة..
لا مواطنة دون مساواة مطلقة أمام القانون.. ودون تكافؤ الفرصة مطلقاً..
إن تكافؤ الفرصة يتعين أن يُقَوِّض دعاوى التمييز العنصرى والفرز..
إن تكافؤ الفرصة كى يفعل فعله الآن فى الإصحاح المجتمعى يحتاج حتماً تشريعات تمكينية صريحة، حتى يتأصل ليصبح سمة طبيعية للأمة.. وذلك وحده الضامن حقاً لتماسك الدولة ووحدة شعبها..
... ...
لن تسود المواطنة بمصر على أسس قويمة إن لم يدعمها التشريع الصارم الشامل الذى لا يترك شيئاً البتة دون مشاركة جميع المواطنين على الأرض المصرية.
ويتعين أن يبدأ ذلك بتطهير الدستور من المواد العنصرية كافة.. التى تكرس للفرقة والانقسام، والجور على الحقوق، والفرز المجتمعى الذى يقصم ظهر الأمة، ويكسر تماسكها، ويبطل تقدمها..
كذلك يتعين أن يترسخ ذلك بتعميق سيادة القانون على هيكلية قانونية واحدة لا تترك لأحد -مهما كان- أن يحتكم لهيكليات قانونية أخرى من نسج قناعاته الخاصة..
قضت أمريكا على التفرقة العنصرية بقوانين حتَّمت على الدولة أن يكون الأسود إلى جوار الأبيض معاً فى كل ممارسات الحياة اليومية: فى المدرسة.. فى السكن.. فى اللعب.. فى العمل.. فى معاقل الدولة.. فى العلم.. فى الفن.. فى التمثيل النيابى.. فى الإدارة المحلية.. حتى الإعلانات فى الطرق، لا إعلان واحداً أبداً دون أن يشتمل على الأبيض والأسود والرجل والمرأة.. واستنت أمريكا من التشريعات والقواعد ما يحكم على خلاف ذلك بجريمة كبرى يقف مقترفوها بمحاسبة صارمة قاطعة أمام القانون.
ويتعين ألا يأتى داع -مهما كان- ليتجاهل الأوضاع المتأزمة التى تكرسها عنصرية الدستور الحالى، وتعوق التقدم الحقيقى لمصر على مدارج الدولة المدنية..
إن ذلك وحده هو المدخل الصحيح نحو سيادة القانون دون تفرقة، وإقرار الحقوق وحمايتها للجميع على قدم المساواة، وترسيخ الديموقراطية الحقة على دعامات قوية من الفصل بين السلطات، وفصل الدين عن الدولة.
إن رسالات السماء كلها فى جوهرها كانت ثورات إنسانية استهدفت شرف الإنسان وسعادته.. وإن واجب المفكرين الدينيين الأكبر هو الاحتفاظ للدين بجوهر رسالته.
فإذا سألنا : وما هو جوهر الدين؟
فإننا نجيب: شرف الإنسان وسعادته.
وتلك هى الدائرة التى يجب أن ينشغل بها كل من يعمل فى خدمة الدين من داخل دور العبادة فقط، دون تديين للمجال العام.
إن الدولة المدنية الحديثة ترفض على نحو قاطع كل الخطاب الذى يستند إلى قيم القبيلة والعُصْبَة والطاعة لكبير القوم والثقة فيه..
لكن الدولة الحديثة تتسق حتماً وتتناغم مع الخطاب العلمى الحداثى الذى يقوم على الوقائع والحقائق، والنقد العادل، والتوجيه المخطط..
فلا ارتجال فى الخطاب العام.. بل إعداد مسبق يتحسب للواقع الوطنى، ونبض الناس، والشفافية والعَلَن والمحاسبة، التى لا تقبل الجماهير بغيرها..
فالثقة فى الدولة المدنية لا تنبع سوى من الشفافية، والعَلَن، والمحاسبة، والامتثال للقانون.
... ...
فى الدولة المدنية الحديثة تنعدم الانتقائية فى تطبيق القانون، بينما تقوض الانتقائية الحاضرة القانون كله، وتُسْقِط هيبته وفعله، وتنشر مناخاً عاماً بسقوط الانضباط والردع..
إن سيادة الجريمة وسطوتها فيما يسمى بالأحداث الطائفية تدمر سلطة القانون فى الدولة كلها..
فليست هنالك جرائم طائفية وأخرى غير طائفية، الجريمة هى الجريمة.. وهى خرق لقانون البلاد.. وأى خرق للقانون لو لم يخضع لسيف القانون ينهار الانضباط فى الدولة كلها، وهو ما حدث الآن فى مصر، ويتعين أن يتوقف فوراً.
... ...
فى الدولة المدنية الحديثة دور الشرطة الرئيسى هو حماية الناس..
فإن لم يكن دور الشرطة الرئيسى هو حماية الناس فقد أخطأت سبيلها وصارت عدواً للناس..
ولكن الشرطة لن تنجح فى حماية الناس إن لم توجهها قرارات وقوانين صارمة كالتى استنتها السعودية أخيراً بشأن المرأة..
... ...
فى الدولة المدنية ينتفى القبض العشوائى على الأبرياء.. وهو يحدث غالباً دون أن يعرف الرئيس عنه شيئاً، لأنه يتم بأوامر بعيدة عن الرئيس، وينفذ غالباً لإعطاء تمام زائف بأن كل شئ منضبط..
لكن الأبرياء يكتوون بالنار، ويلقون باللائمة على الرئيس، وهذا يؤذى الرئيس والوطن جداً..
فليكن القبض على المجرمين مهدفاً لا عشوائياً.. ولا يُزَجُّ فى السجن سوى بالمجرمين والمخربين وأعداء الوطن.
وبعـــد...
لقد أسفرت الأحداث المتوترة عن تماسك الشعب، وتَقَوَّت مصر بنفسها وقيادتها..
لكن ذلك لن يقف حائلاً دون الواجب العاجل..
ويقتضى الواجب العاجل عقد مؤتمر رئاسى قومى يُدْعَى إليه رموز الأطياف المختلفة كلها بالمجتمع، للنظر فى الأجندة الوطنية للإصحاح والإصلاح والتقدم..
فإذا لن تتسع الأحوال لعقد المؤتمر، يتم تشكيل "قوة أزمة" من طلائع الفكر والرؤى والخبرة من كل المشارب والاتجاهات..
وإذا كان الخطر قد تراجع.. واللـه سَلَّم.. فليس ذلك مؤشراً أبداً بأن الحاجة المُلِّحَة لإعادة توجيه الدفة نحو الإصحاح والإصلاح قد تراجعت.. ولكن معناه الوحيد أن الأجندة الوطنية للإصحاح والإصلاح قد وضعت الآن على المحك.