بقلم – روماني صبري
في احد أيام الشتاء التي ما تنفك روعتها تزداد داخلي، أثناء عودتي إلى المنزل بعد انتهاء يوم العمل ، شاهدت واقعة وتعاملت معها بكيفية غريبة حيث شرعت أفكر في كل ما رايته ولكن من الجانب الآخر الأكثر قسوة .. هذا الذي يقلب حياة الفرد فتستحيل إلى جحيم ، رغم أني أعلم كل العلم أن مثل هذه الوقائع باتت طبيعية ومألوفة في مصر.
المكان : رمسيس
التوقيت : بعد الثانية عشر منتصف الليل
في هذا اليوم غمرت مياه الأمطار الأرصفة والطرقات وراحت تتكسر على أحذية الموجودين بالشوارع وتندات المحال التجارية ، كذلك سيطرت رائحتها على الأجواء ، كان المشهد الأكثر بريقا وإبهارا الذي لطالما أبصرته وقت هطول الأمطار بشوارعنا المكدسة الروتينية .. فقط بعد الثانية عشر منتصف الليل تصوم أرجل الكثيرين عن الشوارع خاصة الذين يبغضون السهر، أما الذين ينتهي يوم عملهم بعد الثانية عشر مثلي آنذاك ومحبين التسكع والسهرات فيبقون في شوارع وسط القاهرة مدة أطول .. نزلت من السيارة الـ"تويوتا" التي كانت أخذتني من نفق العروبة بمصر الجديدة ، محيط المكان بالمنطقة المذكورة ، وشرعت على الفور في تدخين سيجارة قبل أن أستقل الميني باص ، انه لشعور عظيم تدخين سيجارة وسط هذه الأجواء الشتوية .
استغل صاحب عربة ( الكسكسي) برودة الأجواء لصالحه ، كان يرمق كل شخص يراه لا سيما الذين حاولوا إضاعة وقت انتظار امتلاء حافلاتهم بتدخين التبغ ، لأنه من المستحيل أن يقود سائق حافلة وثمة مقعد فارغ عدا في بعض الحالات ربما لو كان يفكر في الانتحار مثلا أو يريد ممارسة الجنس .. كانت عربه (الكسكسي)قريبة من موقع الحافلات فأخذ صاحبها يصيح :" كسكسي سخن يدفي البردان" ، وكرر عبارته كأنه إنسان آلي يعاني من خلل !.. على الرجل أن يسعى ويجتهد دائما حتى يمر يومه بسلام ، وهذا ما فعله البائع ، الذي جنى نتيجة صياحه الفوز ببعض المارة فشرع يقدم لهم أطباق الكسكسي الساخنة المضاف إليها اللبن والمسكرات ، فظهر رائق المزاج .. دائما ما تكمن (مخاوف) الباعة الجائلين من عودتهم إلى منازلهم ببضائعهم أو بالقليل منها .. انه الخوف الدميم .
امتزج صوت البائع مع صوت السائقين وصبيانهم وهم ينادون على المارة بصوتهم الأجش المزعج لكن سرعان ما سكنهم الصمت إزاء الواقعة التي سبق وان أتيت على ذكرها دون ذكر تفاصيلها
صرخ رجل فجأة في وجه زوجته وشرع ينهرها علنا، ومثل هذه المشادات والمشاجرات باتت تثير أعجاب الأعراب في الشارع المصري .. عفوا ربما قصدت المصريين أحفاد الملك مينا، ليس في الأمر أثم وجل من لا يسهو ، حتى يواجهونها بالغمز واللمز والضحكات والتعليقات الغريبة المريبة ، ربما أن فعلوا عكس ذلك ستنزل الأمراض المزمنة بأجسادهم ويحجب الرب وجهه عنهم! .
وسرعان ما التفت الكثيرين إلى الرجل وزوجته الشابة بعدما طفح عليه الغضب فوجه حديثه إليها قائلا :" ممكن تغوري من وشي ؟."
فردت عليه بابتسامة ممزوجة بخيبة أمل وضعف واستحياء، وراحت تتوسل أليه باكية حتى كادت ترتمي تحت قدميه :" عيب أحنا في الشارع .. حد يكلم مرآته كده ، الموضوع مش مستاهل كل ده !!! .
فرد عليها :" أنا مش محترم ابعدي عني" ، واخذ يذرع الشارع جيئة وذهابا ، فزاد الخجل على وجه زوجته التي كانت تنظر على الموجودين الذين التفوا حولهم ، وفي النهاية صارت تمشي ورآه حتى اختفوا عن الأنظار .. والأفضل عدم ذكر تعليقات الموجودين على الواقعة احتراما للإنسان ! .
لطالما شهد التاريخ الإنساني منذ الأزل ، صراع الإنسان مع الخوف .. هذا الصراع الذي قاد ملايين البشر التمسك بطريق الإيمان بشكل أكبر ، فيما قاد البعض الآخر للكفر بكل شيء بعد أن حل الظلام بحياتهم فباتت بلا بهجة أو أمل.. وكل ما سبق يأتي في إطار موضوعنا ، وهو الخوف من شيء ما ، لان حياة الإنسان ليست ملكا له "والمضطرب نفسيا في النهاية ضحية لأحد العقلاء" .
خوف الزوجة من شيء ما جعلها تظهر على هذه الحالة، هل تخشى الطلاق ونظرة المجتمع ما يجعلها تتحمل هذا الزوج ، والذي قد يكون مظلوم ربما الله وحده يعلم كل شيء ، هل تخاف الموت وحيدة ، أم ترى أن حياتها بدونه ستبقى بلا هدف ، وفقا لما قالوه قديما وما زالوا يرددونه " أن الإنسان البائس هو من يموت وحيدا".. تذكرت قول مأثور آخر يقول "أن الإنسان الذي يموت في عيد القيامة ، يفتح له الرب أبواب السماء ولا يعرفه الجحيم "، ثمة مقارنات تخلو من الوفاق لكن ليس في الأمر آثم على أي حال بداعي الجنون حتى ، أم انه الحب والخوف من أن تغضبه وتتمرد عليه فيغضب عليها الله ؟.. لا من الواجب استبعاد الحب هنا حتى وان كنت على خطأ ، الصواب أنها باتت ضعيفة لأن الخوف سكنها ، أيا كانت الأسباب لا يهم ذلك ، فالكاتب لا يقدم رسائل كما يدعي البعض لكنه يثرثر كما الجميع .
حياة الإنسان في يد غيره منذ الأزل، وحياة غيره في يد الآخرين ، وحياة الآخرين في يد رجال الدين ، تلك اليد التي تسيطر على المجتمعات في الشرق ، وتخفيهم من عقاب الله وتظهره لهم على انه سيتفنن في تعذيبهم يوم القيامة إذا تمسكوا بطريق الخطاة ، تلك اليد التي قتلت فنان مصري يسمى "حسين صدقي" ، بعدما قرر أن تحرق جميع .. سأتجاهله لأنني لا أحب أفلامه ، كانت تعتمد على الوعظ والإرشاد ، سأذكركم بـ"نيقولاي غوغل"، عراب الأدب الروسي، الذي قال عنه "دوستويفسكي "، أنهم جميعا خرجوا من (معطف) غوغل، في إشارة منه إلى قصة غوغل الشهيرة الساخرة ( المعطف).
لم يمتلك الأدباء الروس الذين جاءوا قبل "غوغول" وبعده رغم عظمتهم أسلوبه الساخر ، في أعماله يستطيع أن يؤلمك ويضحك في الوقت ذاته ، وهو ما كان يفتقده هؤلاء العظماء "دوستويفسكي" و"بوشكين"، وتولستوي"، وبولجاكوف"، "باسترناك"، وغيرهم ، ولما لا وهو صاحب أعظم روايات العالم "الأنفس الميتة"، الذي احرق الملجد الثاني منها بعد أن انتظره العالم ، بعدما أقنعه راهب أرثوذكسي أن الكتابة تغضب الرب ، فنزل به الحزن وزهد الطعام والضحك أرضاء لله حتى يظفر بملكوته ، ليموت شابا عام 1852 .. اللعنة .