نوال السعداوي
لم يكن كارل ماركس أول مَن تكلم عن التحليل المادى الاقتصادى للتاريخ البشرى. سبقه الكثيرون من النساء والرجال المفكرين، شرقًا وغربًا. لم تبدأ الفلسفة فى اليونان، كما علمونا فى مدارس المستعمرات والفكر الأوروبى الغازى المحتل. بدأت الفلسفة فى الحضارات الإنسانية القديمة حول أودية الأنهار، فى مصر والعراق وفلسطين وسوريا والأردن والهند والصين وغيرها من البلاد، بسبب وفرة الماء والطعام وخصوبة الأرض وناتج الزراعة واكتشاف أدواتها من محراث وآلات زراعية بسيطة بدائية. تفوقت النساء فى الحضارات الزراعية القديمة بسبب انشغالهن بإطعام أطفالهن. كانت الحاجة إلى الطعام هى الطريق إلى المعرفة والتقدم. لهذا سبقت المرأة الرجل إلى العلم والفلسفة والمعرفة والعدل. كانت إيزيس فى مصر القديمة إلهة المعرفة والحكمة، معات إلهة العدل، وحواء سبقت آدم إلى شجرة المعرفة. الأصل فى التأثيم كان المعرفة، وليس الجنس. كان الأطفال يعرفون أمهاتهم لأنهن يلدنهم من أجسامهن. بدأت اللغة بالمرأة، الأمهات ينادين على أطفالهن للطعام، وعلى الرجال للإخصاب. كان الرجل البدائى يغتصب أطفاله أو يأكلهم دون أن يعرف أنهم أطفاله. بدأت الأم قوانين التحريم، لتمنع الرجال من اغتصاب أطفالهم. لم تكن الأبوة معروفة حينئذ بسبب الجهل بكيفية تكوين الجنين فى الرحم، ولغياب الرجال الطويل فى أعمال الصيد وقتل الحيوانات والطيور من أجل الطعام أيضًا. تصورت بعض هذه المجتمعات أن الجنين البشرى بذرة غامضة تهبط من السماء مع الهواء.. لهذا السبب، فإن كثيرًا من الزعماء السياسيين والأنبياء فى التاريخ البشرى كانوا مجهولى الأب، وكان الطفل يُعرف بأمه، أى النسب الأمومى، وليس النسب الأبوى. بعد نشوء النظام العبودى الطبقى، انتزع الآباء من الأمهات السلطة والنسب والاقتصاد والثقافة. وانتزعت البلاد الأوروبية، بالمنهج نفسه، استقلال وحرية بلاد إفريقيا وآسيا، حيث الموارد الغنية، فالضرورة أُم الاختراع، وندرة الأشياء تتحكم فى مسارات التاريخ.. ولهذا سبق التطور العلمى العسكرى فى أوروبا بلاد العالم.
كان الفقر فى الطعام والمياه والموارد الطبيعية المختلفة وراء غزو أوروبا بنظامها الطبقى الأبوى الرأسمالى بلاد إفريقيا وآسيا. إنه الاغتصاب الاقتصادى العسكرى والسياسى والروحى لتدعيم الاغتصاب الاقتصادى المادى. وقد سبقت الحملات التبشيرية الروحية الدينية بلاد المستعمرات لتهيئة المناخ الثقافى والفكرى والتعليمى أمام الغزو العسكرى السياسى. شهدنا طوال عصور التاريخ كيف أصبح المفكرون فى بلادنا ينقلون عن مفكرى أوروبا، والآن ينقلون عن مفكرى أمريكا، تدعيمًا لمصالحهم الاقتصادية المتخفية وراء حجاب الأديان. هناك امرأة إفريقية قالت: «قبل أن يأتى الإنجليز إلى بلادنا كنا نملك الأرض، وهم كانوا يملكون الإنجيل.. حينما خرجوا من بلادنا أصبحوا يمتلكون الأرض، ونحن نملك الإنجيل». هذه المرأة الإفريقية لم تقرأ الكتب لتدرك دور الاقتصاد فى السياسة، والحرب والدين، والنسب الأبوى. الاقتصاد يحرك التاريخ والأساطيل والقنابل. لو اهتدينا بحكمة هذه المرأة الإفريقية، لو استخدمنا مقولتها لتحليل الوضع فى بلادنا، لخرجنا بمعرفة وفهم عن الترابط بين الماضى والحاضر، بين قهر النساء وقهر الشعوب، بين ما يحدث فى العلاقات الأسرية الشخصية والسياسة الدولية، بين النسب الأبوى وشن الحروب. لقد ساءت أحوال مصر بعد الاستعمار البريطانى القديم، وساءت أكثر وأكثر بعد الاستعمار الأمريكى الجديد. قبل أن يأتى الاستعمار القديم، كنا نملك طعامنا رغم الفروق الطبقية العنصرية الموروثة فى العالم. مَن يملك طعامه يملك استقلاله، سواء كان دولة أو رجلًا أو امرأة. بعد الاستعمار البريطانى عام 1882، اتسعت الهوة الطبقية العنصرية، وسيطرت على الاقتصاد المصرى طبقة عليا من كبار المُلّاك الإقطاعيين الزراعيين، ومعهم كبار الرأسماليين المصريين والإنجليز المديرين للقطاع الصناعى والتجارى. وأدى ذلك إلى الثالوث المزمن الشهير: الفقر والمرض والجهل، فقط 2% من الشعب المصرى، ومعهم الأجانب، ملكوا الأراضى والأموال والتعليم والثقافة والكنائس والجوامع، و98% لم يملكوا إلا ما يسد الرمق، طعامهم الخبز المقدد. ثم جاءت ثورة 1919، لكنها مثل كل الثورات الشعبية، تم إجهاضها من سلطات الاحتلال الإنجليزى، بالتعاون مع النخب السياسية الفاسدة. ثم جاءت حركة الضباط الأحرار عام 1952، وسقوط الملك، وخروج الإنجليز، وبدأت اقتصادية لسد الفوارق الطبقية والعنصرية. لكنها تعثرت بسبب الحكم العسكرى الاستبدادى تحت اسم الاشتراكية والوحدة والنظام، ونتيجة استمرار زواج السلطة بالثروة. اشتدت الأزمة فى سبعينيات القرن الماضى مع تدشين الانفتاح الاقتصادى الاستهلاكى، وتم تمرير الاستعمار الأمريكى الجديد تحت أبخرة ودخان الصحوة الدينية الإسلامية والمسيحية. عاد ثالوث المرض والفقر والجهل، بشكل أشد، مع المزيد من قهر النساء الملتحف بالشرع الإلهى. دعونا لا ننسَ مقولة المرأة الإفريقية: «أعطونا كتاب الله، وأخذوا أرضنا وأموالنا»، فهى تفضح الماضى وتكشف الحاضر وتنبئ- ربما- عن المستقبل.
نقلا عن المصرى اليوم