أمينة خيري
يعود "سد النهضة" ليحتل رأس قائمة الأولويات. وهذا الاحتلال يأتي عن جدارة. السد يستحق، والقلق في محله، والاهتمام مطلوب. لكن الاهتمام هنا لا ينبغي أن يكون مثل الاهتمام بفيديوهات عجيبة، أو تغطيات إعلامية إقليمية ودولية مريبة، أو فساتين الفنانات وتغريداتهن.
الاهتمام المسؤول مطلوب، والعلم والإلمام بالمعطيات ضرورة، والبحث والتنقيب في التاريخ حتمية، وربط التحركات بالسياسات والتوازنات العالمية ليس اختيارًا، لكن الاختيار هنا يقبع في القرارات المسؤولة التي يمكن للمواطن المصري- بغض النظر عن انتماءاته وتوجهاته ومواقفه- أن يتخذها.
فالتدوين والتغريد في مسألة كسد النهضة مسؤولية، والإدلاء بالدلو لا ينبغي أن يكون نابعًا من أحاسيس أو مشاعر بل معلومات ووثائق، والبكاء على اللبن المسكوب في عهود سياسية مضت لن يؤدي إلا إلى مزيد من السكب والإهدار.
إهدار الوقت والجهد والكهرباء والباقة في إعادة تدوير آراء شعب الإنترنت عن سد النهضة وأبعاده وتاريخه وتوقعاته المستقبلية بالنسبة إلى مصر، وكأنها معلومات أو بنات أفكار لخبراء ومؤرخين وساسة- هو إهدار لنا جميعًا. والتعامل مع المسألة من منطلق "خناقات الحارة" حيث يتواتر أصحاب العضلات لمجابهة ذوي التنظيرات في أجواء صاخبة صارخة زاعقة لا يتناسب ونوع القضية.
قضايا عدة شغلت الرأي العام المصري، وسيظل بعضها يستحق الانشغال وبعضها ليس إلا إلهاءً. والرأي العام المسؤول من شأنه أن يضيف للقضايا الحيوية ولا ينتقص منها أو يدفع بها نحو الهاوية. الرأي العام المتنور المثقف المسؤول يبحث ويدقق قبل أن يفتي ويقرر، أو يشحن ويشحذ.
وإذا كانت فساتين الفنانات قابلة لـ"هات وخد"، وأداءات فرق كرة القدم خاضعة للاتفاق والاختلاف، وحتى تقييمات الأداء الاقتصادي تتسع للاتفاق والاختلاف، فإن القضايا المصيرية الخاصة بالأمم تتطلب حدودًا دنيا من المسؤولية الوطنية والثقافة المعرفية.
ملف "سد النهضة" ليس "فيلم الممر" حيث الواقفون عن يمين النظام السياسي يمدحونه والقابعون عن يساره يقللون من شأنه.
وهو ليس طريقًا جديدًا أو مدينة سكنية حديثة، حيث المؤيدون لاعتبار البنى التحتية أولوية يمتدحونه، والمعارضون يشجبونه.
وهو ليس مباراة بين الأهلي والزمالك، حيث أنصار هذا يشحذون الهمم ضد ذاك، ومشجعو ذاك يجيشون الحماسة ضد هذا.
هو ملف يهم الجميع، ويستدعي اهتمامًا مسؤولاً من الجميع لصالح الجميع.
هذه ليست دعوة للحجر على الآراء، أو منع التعبير عن المواقف والمشاعر، لكنها مبادرة لترجيح كفة المعرفة قبل التنظير، والتثقيف قبل مشاركة آراء الغير، والتفكير مرتين قبل إعادة تدوير معلومات هي في حقيقة الأمر مغلوطات أو مقترحات، بل أقرب ما تكون إلى عالم سمسم منه إلى عالم الواقع.
واقعيًا "سد النهضة" يمثل معضلة. والمسألة ليست مجرد نهر وسد وجغرافيا وتاريخ ونصيب من الماء وحياة؛ لكنها توازنات سياسية ومواءمات قوى وتداخلات أممية ومصالح شديدة التشابك والتعقيد.
وبالمناسبة، إن القرارات العسكرية لا تتخذ بناء على ترند، والتحركات السياسية منبعها ليس تدوينة حازت آلاف المشاركات أو تغريدة استقطبت هؤلاء وأولئك.
وللعلم أيضًا، إن الغالبية المطلقة من التغطيات الإخبارية هذه الآونة تطغى عليها ألوان سياسية ونكهات استقطابية.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، تشير "سي إن إن" الأمريكية إلى أن إثيوبيا تقول إن مصر اتبعت تكتيكًا تخريبيًا بشأن سد النهضة، ولا مبرر لمطالبها.
وتقول "سبوتنيك" الروسية إن رئيس وزراء إثيوبيا آبي أحمد ينفي وصول المفاوضات مع مصر إلى طريق مسدود.
وتصف إثيوبيا موقف مصر من السد بـ"المعرقل" وتتعهد باستمرار المفاوضات البناءة بحسب "أديس ستاندارد" الإثيوبية.
ويشير الإعلام التركي إلى أن تركيا أمدت إثيوبيا بكم هائل من الأدوات المدرسية لدعم الطلاب في بداية العام الدراسي.
وتقول الإدارة الأمريكية إنها تدعم المفاوضات الجارية بين مصر وإثيوبيا والسودان للتوصل إلى اتفاق مستدام ومتبادل المنفعة بشأن تعبئة سد النهضة الإثيوبي الكبير وتشغيله، وإن كل دول وادي النيل تتمتع بالحق في التنمية الاقتصادية والازدهار، وهلمّ جرّا.
قليل من البحث والقراءة والتدقيق لا يضر، وكثير من التفكير قبل نقر الـ"شير" وإعادة تدوير المغلوطات والمعلومات لا يضر.
نقلا عن مصراوى