سحر الجعارة
نحن جيل محظوظ، بحكم تاريخ الميلاد ومكانه، معظمنا لم يعش الحروب التقليدية بيومياتها الحارقة، ولا غادر منزله مفزوعا على صفارة الإنذار: «غارة».. لم يولد الكثير منا على إيقاع طلقات «المقاومة» فى «مدن القناة» الباسلة أثناء العدوان الثلاثى على مصر، (عقب تأميم قناة السويس)، ولا كنا من أهالى «سيناء» التى استولت عليها إسرائيل بعد نكسة 67.. معظم جيلى تفتح وعيه على معانى «البطولة والفداء» من كتب التاريخ والجغرافيا، أو من صور بعض القريبات يتشحن بالسواد حدادا على «شهيد» فى حرب الاستنزاف أو فى حرب استعادة الأرض والكرامة فى 6 أكتوبر 73.
كان «عبدالناصر» بالنسبة لنا كلمة السر التى تفتح بها كتب «هيكل» وتسمع بها صوت «حليم» وتسافر فى رحلة مدرسية لتشاهد معجزة «السد العالى».. وكان «السادات» هو لغز لم تحله براءة طفولتنا التى كانت تنبهر بجائزة «نوبل» للسلام وتندهش من الرفض الشعبى لاتفاقية «كامب ديفيد».. تنحاز لـ«أبوعمار» وتبكى من أجل «فلسطين» وتتساءل: لماذا لا تحرر «المفاوضات» القدس الأسيرة؟!.
كانت طفولتنا قطعة «شيكولاتة» تسلبك الوعى بخطورة «انفتاح السداح مداح»، وتنقلك عبر جسر خشبى إلى مدينة «بورسعيد» التى عاد إليها أهلها وتحولت إلى منطقة تجارية حرة.. لم تكن «السياسة» من مفردات حياتنا اليومية، كان قاموسنا خاليا من مصطلحات: (الأحزاب، التعددية الدينية، التجريف الثقافى، التعصب الإرهاب... إلخ تلك الهموم).. كانت الحياة أبسط وأجمل، وأقصى ما يشغلنا «اليوم المفتوح» على التليفزيون.. حتى مفاوضات استعادة «طابا» لم نشهد منا إلا رفع العلم المصرى بعد تسلمها.
كنت أتعجب من «حصة السياسة» اليومية التى يصر أبى أن يلقنها لى، وكنت أعتبرها مدخلا لفتح ملف طلباتى.. فلم ننتم يوما لفصيل سياسى فى الجامعة ولم يتعرف أحدنا على السياسة إلا من كان كل همه «القراءة» مثلى.
فجأة أصبح كل فرد فيما يزيد عن 100 مليون مواطن، (باستثناء الأطفال الرضع)، طرفا فى حروب «الجيل الرابع».. أصبح الكل «فاعلا» بضغطة زر على الكيبورد.. وأصبح فى يد كل مواطن «لغم» اسمه «هاتف ذكى».. يستطيع أن ينقل صوتك وصورتك بالصدق أو بالكذب إلى كافة أنحاء العالم.. وسقطنا جميعا فى فخ «الشبكة العنكبوتية» دون «وعى» حقيقى نتسلح به: (يفترض أن يتم بالتعليم والإعلام والمسجد والكنيسة قبل المنزل).. وأصبحنا صيدا سهلا لكل ما تتخيله من أنواع الحروب.
تولت قناة «الجزيرة» غسل عقولنا وحشوها بالعداء للنظام قبل يناير 2011، وحين فشل إعلام «مبارك» فى ردعها، تم قطع الإنترنت لتكمل المسيرات حشودها إلى كافة ميادين الجمهورية.. تخيل أن أول حرب شاركت فيها الأجيال الجديدة من الشباب كانت ضد «الدولة».. وبعد أن سقط جهاز الشرطة وتم اقتحام الأقسام والنيابات والمحاكم.. ظهر شعار «يسقط حكم العسكر» فكان الجيش، ولايزال، هو الهدف من المؤامرة، وهنا بدأ جيلى الذى كان معظمه يناصر الثورة فى الاستيقاظ، حتى جاءتنا الصفعة بحكم «المرشد» لندخل حربا فرضت علينا فى مواجهة «ميليشيات الإخوان»، ونرى على الشاشة رموز الإرهاب تحتفل بنصر أكتوبر بدلا من «السادات» رحمه الله.
كان درسا قاسيا بدأ بتزييف الوعى وانتهى بالفاشية الدينية، ولولا انحياز القوات المسلحة للشعب فى ثورة 30 يونيو، لظلت مصر تحت أقدام المرشد حتى يومنا هذا.
إننا نعيش الآن على إيقاع الحرب التى حذر منها الرئيس «عبدالفتاح السيسى»، فى كلمته بمناسبة الذكرى 46 لنصر أكتوبر المجيد.. قال الرئيس: (تغيرت أشكال الحرب وأساليبها، وصولاً إلى استهداف الروح المعنوية للشعوب، ولتصل إلى المواطن داخل بيته، من خلال وسائل الاتصال والإعلام الحديثة.. حربٌ تستهدف إثارة الشك والحيرة، وبث الخوف والإرهاب، تستهدف تدمير الثقة بين المواطن ومؤسساته الوطنية، بتصوير الدولة كأنها هى العدو.. وتصبح الجهات الخارجية التى تشن الحرب.. كأنها هى الحصن والملاذ).
لقد ربط الرئيس النصر فى حرب كهذه بوعى كل مواطن.. أما تشكيل الوعى فسوف يعود بالقضية إلى دور الدولة فى إدارة منظومة تحترم العقول، وتحررها ولا تعتقلها بالتعليم والإعلام وداخل المسجد والكنيسة.. وهذه قضية معقدة!.
نقلا عن المصرى اليوم