عاطف بشاي
أَمىُّ في التراب؟../آه منك أيها التراب/ أَيْنَ فِى المَحْفِلِ مَىُّ يَا صِحَابْ؟/ عَوَّدَتْنَا هَا هـُنَا فـَصْـلَ الخِطابْ/ عَرْشُـهَا المِنْبَرُ مَرْفـُوعُ الجَنَابْ/ أَيْنَ فِى المَحْفِلِ مَىُّ يَا صِحَابْ؟/ رحمة الله على مىّ خصالاً/ رحمة الله على مىّ فعالاً/ رحمة الله على مىّ جمالاً/ رحمة الله على مىّ سجالاً..
إنها واحدة من أجمل قصائد العقاد وأصدقها وأكثرها بلاغة وأنبلها شعورًا.. خاطب فيها «مىّ» والحزن يعتصره على رحيلها والدموع تنهمر أمام قبرها وقد وراها التراب وإلى جواره عدد من أدباء هذا العصر الجميل ورموزه الكبار ينعون «مىّ»-الأديبة النابغة- التي أحبوها وأحبتهم وضمهم صالونها الشهير.. و«العقاد» أحب «مىّ» كما أحبته حبًا حقيقيًا.. لم يخلقه وهم أديب اصطنع العذاب واللوعة غذاء لإلهام.. ولم تستجب هي له كفتاة حالمة تثيرها عواطفها تجاهه.. وتشغلها غريزة هوجاء تعصف بها.. إنه حب ناضج نما وتأجج بالكثير من العقل والفكر.. وتمازج العاطفة والوجدان بمنطق الواقع وشروطه وحواجزه.. ومعطياته.. ولكنه حب كان يمكن أن يتوج إلى زواج.. فالرسائل المتبادلة بينهما كانت تؤكد انسجامها الفكرى والعاطفى.. وتمثل مواظبته على حضور صالونها تطورًا للعلاقة.. ولكنه حينما طلب منها الزواج.. رفضت مذكرة إياه بأنها مسيحية وهو مسلم.. أخبرها أن ذلك الحاجز لا يمثل عقبة بالنسبة له.. فدينه يسمح له بالزواج من مسيحية.. فقالت له إن دينها لا يسمح لها بذلك.
واعترف العقاد في حديث صحفى مع كامل الشناوى.. بأنه ومىّ تربطهما علاقة عاطفية وطيدة.. وأن عنده من رسائلها وعندها من رسائله ما يصلح كتابًا يصور تلك العلاقة القائمة على الحب المتبادل.. ويرى العقاد أن «مىّ» بحزنها الرابض في أعماقها.. وإحساسها الطاغى بالغربة رغم التفاف الصفوة حولها.. ونشأتها منذ الطفولة ابنة وحيدة من أم فلسطينية وأب لبنانى ينتقلون من بلد إلى بلد مشكلين أقلية في كل بلد.. كل ذلك شكل أديبة ملتهبة المشاعر كأنها شمس تأكل نفسها وتحترق بنارها وتختنق بدخانها.. كتلة من التناقضات.. الحرمان الملتهب.. والدموع الساخنة.. والتكتم والوضوح.. العالمية والتقوقع.. تخاف من التجربة وتخاف من الفشل.. الشك العميق أخص خصائصها.. تخاف أن تتحدث إلى أحد منفردة به أو منفردًا بها.. وأضيف أنا إلى رأى العقاد أن النشأة الدينية المبكرة في رحاب مدارس الراهبات بلبنان.. والإقامة الكاملة فيها بالقسم الداخلى تاركة والدها ووالدتها في فلسطين.. عمقت إحساسها بالوحدة والغربة وزادتها عزلة وربما اكتئابًا مبكرًا، قراءة أشعار الرومانسيين الفرنسيين الحزينة.. بالإضافة إلى التحفظ أو التشدد الدينى الذي يجنح إلى ارتباط الجنس بالدنس والخطيئة.. والسمو بالروح الذي يقتضى التبتل.. وكبح جماح الغريزة.. فكانت رغم شعورها بالحياه وإحساسها الصادق العميق وذكائها الوضىء وروحها الشفافة ورقتها وأنوثتها تحرص على أن تمارس هذه الحياه بعفة واتزان رغم التفاف الصفوة حولها يخطبون ودها ويكتبون في محاسنها الأشعار الجياشة بالحب «كإسماعيل صبرى» الذي غاب عن صالونها مرة مضطرًا فكتب إليها: روحى على بعض دور الحى حائمة/ كظامئ الطبر تواقًا إلى الماء/ إن لم أمتع بـ«مىّ» ناظرى غدًا/ أنكرت صبحك يا يوم الثلاثاء.
أو «ولى الدين يكن» الذي كتب إليها رسالة مرددًا في تدله وانسحاق: عندى قبلة هي أجمل زهرة في ربيع الأمل.. أضعها تحت قدميك.. إن تقبليها تزيدنى كرمًا.. وإن ترديها فقصاراى الامتثال.. وبعد فإنى في انتظار بشائر رضاك وطاعة لك وإخلاصا..
أو «مصطفى صادق الرافعى» العاشق الأفلاطونى الذي كان يتكبد عناء السفر من طنطا، حيث يقيم ويعمل، إلى القاهرة كل ثلاثاء ليحضر ندوتها ويستمد من عذوبة حديثها الشجى وعينيها الملهمتين ووجهها الوضاء أحرف كلماته وأبيات أشعاره.. ويكتب أسطر كتبه من وحى حبه لها.. ثم انتهت علاقته بها نهاية ميلودرامية غريبة.. وذلك حينما رأى ذات مرة في جلسته بالصالون «مى» و«العقاد» وحافظ ابراهيم.. يتهامسون فيما بينهم ويغمزون ويلمزون وهم يرمقونه.. فتوهم أنهم يخصونه بالسخرية فغضب بشدة وخرج مندفعًا من الصالون.. وجلس بمقهى قريب من منزلها وكتب رسالة هجاء لها وانقطع عن الذهاب إلى الصالون وعن رؤيتها حتى ماتت.
لكن «مى» لم تسلم بشخصيتها الفريدة والمحيرة، وخاصة فيما يتصل بعلاقتها الغريبة بـ«جبران خليل جبران» الذي أحبته وأحبها وامتدت قصة الحب تلك أكثر من عشرين عامًا من خلال الرسائل التي تبادلاها.. هو في أمريكا وهى في مصر.. فلم يرها ولم تره إطلاقًا.. لم تسلم من ألسنة بعض معاصريها وبعض نقاد الجيل اللاحق ومنهم «أنور المعداوى» الذي اصطاد فقرة من رسالة «مى» إلى «جبران» تقول فيها: «لما كنت أجلس للكتابة لك.. كنت أنسى أن هناك رجلًا أخاطبه.. فأكلمك كما أكلم نفسى.. وأحيانًا كأنك رفيقة لى في المدرسة».. فإذا بالناقد الكبير يكيل لها من الأوصاف المتعسفة نقائص مثل: الأنوثة غير المكتملة- الأنوثة الخامدة- الشذوذ الجنسى.. وتوصل إلى نتيجة فحواها أنه إذا ما قتلت الأنوثة في أعماق المرأة فقد قتل إحساسها بالرجل.. وانمحت الفروق الجنسية في عالم الشعور.. يبدو الرجل في منظارها وهو لا يختلف عنها في شىء.. لأنها حرمت حاسة الجنس وسلبت توجيه الغريزة.
وهكذا فإن الناقد الكبير الذي كان أولى به أن يتفرغ لدراسة أدب «مى» وفكرها وإنجازها الإبداعى الكبير.. انزلق في شهادته إلى خليط من الترهات والتسطيح المخل والخوض غير المحدود في سمعة كاتبة شهيرة.
نقلا عن المصرى اليوم