بقلم : فاروق عطية
في البداية عندما استولى العثامنة على مصر حفظوا لأهل الذمة حقهم بشكل رسمي. أصدر السلطان سليمان القانوني (إبن السلطان سليم الأول) فرمانا بتاريخ أول يناير 1523م جاء فيه "قررنا أن تكون ذمتهم محفوظة على الدوام بذمة المسلمين، رعاية منا لسوالف العهود وغاية السوابق من غير عدول عن معناه ولا خروج عن فحواه"، لأن والده قد سبق وأصدر فرمانا حفظ فيه حقوق أهل الذمة بمصر وهو يسير على نهج أبيه. ثم أتبعه بفرمان آخرفي مايو 1525م مؤكدا فيه ما أورده بالمرسوم الأول وجاء فيه "أن يكونوا محميين مراعين على الدوام وذمتهم محفوظة بذمة المسلمين على الحكم المرعي والقانون المرعي، لا يمسهم سوء ولا ضرر ولا تشويش ولا كدر، داعون لدولتنا القاهرة وثبات أعوام سلطتنا الباهرة". كانت السلطة العثمانية الحاكمة في مصر تحرص دائمًا على الالتزام بالعدالة تجاه الأقباط المسيحيين عملا بما أُصدر من فرمانات، إلا أنها كانت في بعض الأحيان تمارس تحفظًات كثيرة عليهم إرضاءً لعلماء الدين الإسلامي ذوى النفوذ الواسع آنذاك من جهة، ومراعاة لمشاعر عامة المسلمين من جهة أخرى.
بعد أن فتح السلطان سليم الأول مصر عاد إلى استنبول ومعه الخليفة العباسي المتوكل على الله الذي تنازل له عن الخلافة وسلمه الآثار النبوية الشريفة رمز الخلافة وهي "البيرق والسيف والبردة" ومفاتيح الحرمين الشريفين، وأخذ معه عددًا كبيرًا من مهرة الصناع وأصحاب الحرف وكان جُلهم من الأقباط المسيحيين، حيث يذكر ابن إياس:" وتوجه إلى استنبول جماعة طائفة النصارى: بانوب الكاتب في الخزائن الشرقية، وأبو سعيد أمين الدولة، ويوحنا الصغير، ويوسف بن هبول وشيخ المكين السكندري وولده وآخرون من اليهود ومن النصارى لا تحضرني أسماؤهم، فارقت الناس أوطانهم وأولادهم وأهاليهم، وتغربوا إلى بلد لم يطأوها من قبل وخالطوا قومًا غير قومهم". وقد ذكر المقريزى ذلك وقال: "أن الحرف التى أخذ السلطان سليم صنّاعها بلغت أكثر من 50 صنعة". بذلك فقد المسلمين الخلافة الإسلامية وفقدت مصر حضارتها المتمثلة في صنّاعها وحرفييها. عمومًا يمكن القول أن الإدارة في استنبول نظرت إلى الأقباط على أنهم من رعايا السلطان يشتركون مع غيرهم من أهل الذمة في الحقوق والالتزامات بأشكالها كأنواع الضرائب المختلفة بالإضافة إلى الجزية التي كانت مفروضة فقط على أهل الذمة من أقباط ويهود.
كانت تفرض الجزية أو ضريبة الجوالي علي الأقباط المسيحيين، وهى أكثر الالتزامات المالية أهمية بالنسبة لهم، وكانت التزامًا على كل قبطي مسيحي ويعفي منها العناصر غير المنتجة: كالنساء والأطفال والشيوخ أحيانا، والرهبان ومرضى الجُذام والبرص والمشلولين وغيرهم. وكانت الجزية بمثابة ارتباط بين الأقباط المسيحيين والسلطة نظير الدفاع عنهم، ولم تكن نسبة المدفوع ثابتة بل كانت تزيد حسب الأحوال، إلا أنها عمومًا لم تكن وحدها تشكل عبئًا ثقيلًا على الأقباط، ولكنها صارت عبئًا عندما أضيف إليها ضريبة البراني وابتزاز رجال الإدارة، والضرائب الإضافية الأخرى. وتحدثنا المصادر القبطية عن زيادة قيمة ضريبة الجوالي في عام 1733م صدر فرمان سلطاني بزيادة الجزية علي النصارى وجعلها ثلاث درجات، الأولي أربعة دنانير، والثانية دنارين، والثالثة دينارا، فرضت علي الذكور دون استثناء، وأُلزم البطريرك بدفعها عن القسوس وخدام الدين: "كانت أيام شدة وحزن على كاهل الفقراء وأرباب الصناعة وان المُباشِرين الأقباط الأثرياء كانوا يشترون الفقراء من حبس الجوالي ويخلصوهم"؛ أي أن المسيحيين الموثرين كانوا يسددون الضرائب عن الفقراء منهم، الذين كانت الإدارة تلقى القبض عليهم حتى يسددوا الضرائب، مما يوضح أن المعاناة كانت تؤرق الفقراء أكثر من الشرائح الاجتماعية الأخرى، وتزداد المعاناة شدة في أيام الأزمات وهي أيام المجاعات والغلاء والأوبئة الشديدة.
كانت مواريث الأقباط المسيحيين في بداية العصر العثماني تخضع لأشراف الدولة استمرارًا لما كان متبعًا في عصر المماليك، وفي عام 1525م ظهر قانون (روزنامة مصر) الذي وضعه سليمان القانوني وبه أخضع كل رعايا الدولة لتنظيم واحد، ينص علي أنه إذا مات شخص ما مسلم كان أم ذمي لابد أن يخبر أهل الميت صاحب بيت المال، حتي يقتص من تركته حق بيت المال إن وجد، ويعطي الأهل تصريحا بالدفن.
كان السلطان سليمان الفاتح (حكم من6 موفمبر 1520محتي وفاته في7 سبتمبر 1688م) له مُنجّم يهودى يستشيرة فى كل أموره خاصة فى أمور الحرب فسأله عما يمكن أن يعمله لتثبيت حكمه وتوطيد دعائم مملكته فأجابه اليهودى بأن :"نصارى مصر وغيرها من بلاد الشرق الأوسط يشكلون خطراً على مملكته لأنهم يثورون عليه وينضمون إلى ملك الروم الذى سيجد الفرصة مواتية لمحاربة الدولة العثمانية، فصدق السلطان سليمان قول النجوم وعزم على إصدار الأمر بإبادة النصارى من البلاد ولكن تدخل الوزير بيروز باشا الذى قال:"إن الملك من الله ولمن أراد الله أن يعطية إياة، فإن فعلت هذا خربت مملكتك"، فأعادت هذه الكلمات اللينة الصواب إلى السلطان فتراجع عن إصدار الأمر وأوقفه الوزير عن الإيقاع بالقبط وبإخوتهم نصارى البلاد الأخرى.
كانت القيود الإسلامية المفروضة علي الذميين في مصر الإسلامية قبيل العصر العثماني تتمثل في القيود المفروضة على الأزياء، من حيث اختيار اللون الأزرق في الغالب للمسيحيين، واللون الأصفر لليهود وكان يسمى بلبس الغيار(الزي المُغاير لِزِيّ المسلمين)، مع لبس الزنار وهو حزام اقرب إلى الحبل يشد به الوسط، واختلاف لون عمامة المسلم عن المسيحي واليهودي، حيث كانت عمامة المسلم بيضاء وعمامة المسيحي زرقاء وعمامة اليهودي صفراء، وأحيانًا كان يقيد حق أهل الذمة في اقتناء العبيد والجواري، كما حظر عليهم ركوب الخيل ويكتفون بركوب الحمير أو البغال بالأكفأ عرضا أي من ناحية واحدة. وأحيانا كان يغض الطرف عن هاذه القيود وعدم الاتفات إليها في مقابل بعض المال يدفع للإدارة. وقد ظهرت بعض التغيرات المرتبطة بهذه المظاهر في العصر العثماني، فحل اللون الأسود كلون مميز لعمائم الأقباط، وترجع المصادر التاريخية حدوث ذلك فى عهد حكم حسن باشا الخادم (1580–1582م) تقريبًا، لكن ذلك لم يستمر طويلًا إذ سرعان ما عاد التغيير في لون عمامة الأقباط: على ألا يزيد طول الشال على عشرة أذرع، حتى لا تكون للقبطي عمامة كبيرة لأن عظم حجم العمامة دلالة على عظم مركز صاحبها!
في سنة 1677م نادى المحتسب في القاهرة بأوامر عديدة منها إلزام النصارى بصبغ عمائمهم باللون الأسود، وفي عام 1732م نادى بعض رجال الإدارة في القاهرة باتخاذ الأقباط للشيلان الزرقاء لعمائمهم، ولكن ذلك لم يستمر طويلًا، إذ سرعان ما تخلت الإدارة عن معظم القيود التي فرضتها على الأقباط، ومنها لون العمامة، وذلك نتيجة توسط أعيان الأقباط لدى الوالي العثماني، إلا أنه عمومًا لم يكن هناك خط موحد للون وشكل العمامة حتى تذوب أوامر الوالي. وينطبق الأمر نفسه على ألوان وأنواع أزياء نساء الأقباط، فأول إشارة عن قيود حول أزياء القبطيات وألوانها ترجع إلى عام 1677م حينما نادى المحتسب بمنع القبطيات من لبس الجوخ والأصواف، ولبس (الإزار) وهي الملاءة الفضفاضة التي تلبسها المرأة فوق ملابسها، على ألا تكون بيضاء وإنما لون آخر يخالف لبس اللون الأبيض وهو ما تلبسه المرأة المسلمة.
أما قيود ركوب الخيل على الأقباط فكان استمرار لما كان سائدًا عليهم في العصر المملوكي ، فكانوا يركبون البغال والحمير بالأكفأ عرضا أي من ناحية واحدة، وفي العصر العثماني استمرت هذه القيود مفروضة على الأقباط، وكان عليهم النزول إذا مروا على أحد الوجهاء أو أمام بيت القاضي، وكانت نساء الأقباط مُستثناة من النزول. ومن القيود التي كانت مفروضة على الأقباط في العصر المملوكي حرمانهم من دخول الحمامات العامة دون تعليق "الصليب"في أعناقهم. وفى العصر العثماني صدر الأمر في القاهرة عام 1677م بعدم دخول النصرانى الحمامات العامة إلا بعد تعليق جلجلا واليهودي جلجلتين في عنقه.
أطلق العثمانيون علي كل مجموعة من غير المسلمين لقب ملّة والموظف المسؤول عن إدارة هذه الملّة أمام الدولة أسمته ملّة باشي. تميزت الملة الأرثوذكسية عن الملل الأخرى ببعض الميزات ولهذا كان الأرثوذكس مؤيدين للحكم العثماني. ورغم تلك الميزات فقد كانت هي الملّة الوحيدة التي تخضع لنظام ”الدفشرمة” أو ضريبة تقديم الأطفال الصغار الى السلطان ليقوم بتربيتهم واستخدامهم عبيداً له في الحرب أو الادارة. عندما فتح محمد الثاني للقسطنطينية أعفى جميع المسيحيين فيها مهما كانت ملتهم من هذه الضريبة حفاظا لشعورهم. علل بعضهم هذا الامتياز المعطى لليهود والأرمن والكاثوليك بأن اليهود والأرمن كانوا سكان مدن أما الأرثوذكس فهم من القرويين والدولة العثمانية بحاجة الى أفراد أشداء من أهل الريف، كما أن معظم الأرثوذكس يقيمون في أوربا (وهي أرض حرب) أي أن سكانها في حالة حرب مع الأتراك المسلمين وتبيح لهم الشريعة الإسلامية الاحتفاظ بالأسري كأرقاء واستخدامهم في حروبها.
لقد مرت الكنيسة في عهد الدولة العثمانية بلحظات صفاء، حيث قدمت الإدارة فيها للكنيسة المساعدة المرجوة، مثل الاعتراف بحقوق البابا بطرس 104 في تطبيق تشريعات الكنيسة القبطية الخاصة بالأحوال الشخصية للأقباط، واستعانة الكنيسة القبطية في عام 1738م بالإدارة لمواجهة المبشرين الكاثوليك ومحاولتهم كثلكة الأقباط. ولم تكن الدولة العثمانية تتدخل في اختيار الأب البطريرك إلا إذا دعت الحاجة إلى ذلك وبناء على طلب الأقباط أنفسهم كما حدث في تولى البابا (متاؤس 102) أو البابا (بطرس 104)، ولكنها كانت تتدخل أحيانًا بالتعرض للبابا القائم بالعزل أو بالسجن أو بترجيح كفة منافسيه. وكان من اختصاص البابا وحده سيامة الأساقفة والكهنة دون تدخل الدولة، وإن كانت تتدخل أحيانا بناء على شكوى أحد الأطراف لتعيد الحق إلى نصابه، أو قد تكون في جانب خصم دون آخر بناء على ما يقدم هذا الخصم من أدلة أو أموال، كما تمتعت الكنيسة القبطية بالأوقاف العديدة التي أوقفت على الكنائس والأديرة والتي شملت المباني والحوانيت والأراضي الزراعية وغيرها، وكانت السمة السائدة هي حفاظ السلاطين على هذه الأوقاف، ولو أنه حدث أحيانًا تعدى بعضهم على هذه الأوقاف.
لقد ساءت العلاقة بين الكنيسة والحكومة في أواخر القرن الثامن عشر، لاسيما في فترة الاضطراب التي صاحبت حملة حسن باشا على مصر، ويده القوية التي بطشت بجميع المصريين حتى أن البابا القبطي آنذاك (البابا يوحنا 107) هرب من كرسيه، كما هرب جميع الأساقفة الأقباط، وخلع البابا والأساقفة ملابسهم الكهنوتية، وتنكروا في ثياب أخرى كي لا يُعرفوا.