بقلم: أحمد صبح
 

إن السلفية مرحلة زمنية مباركة لا مذهب إسلامي ، وهذه حقيقة أكدها محمد سعيد رمضان البوطي وجعلها عنوناً لكتابه " القيم " ، حيث بين أن السلفية هي

القرون الثلاثة الأولى من عمر هذه الأمة الإسلامية لقوله عليه الصلاة والسلام " خير الناس قرني ، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ، ثم يجيء أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه ، ويمينه شهادته " متفق عليه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه .

وأهل القرون الثلاثة الأولى هم الصحابه والتابعون وتابعو التابعين ، وبناء عى ذلك فكلنا سلفيون !!
والالتزام بمنهج السلف هو الانضباط بقواعد فهمهم للنصوص ، والتقيد بما اتفقوا عليه من الحقائق الاعتقادية والأحكام السلوكية ، ولايتحقق ذلك إلا بالالتزام بمنهج السلف في قواعد التفسير للنصوص ، والرجوع إلى طريقتهم في أصول الاجتهاد واستنباط الأحكام .

والأئمة الأربعة كانوا يستمدون العقيدة من الكتاب والسنة ، ولكنهم مع ذلك لم يعرفوا باسم " السلفيين " لأن الشقة الزمنية بينهم وبين الصحابة والتابعين لم تكن بعيدة ، بل لعلهم رأوا وتتلمذوا على كثير من التابعين ، ولكن مع امتداد الزمان ، وانشعاب الجماعات الإسلامية في أفكارها متمذهبة بالكثير من المذاهب قديمة كالشيعة والخوارج والمعتزلة ، وحديثة كالأشاعرة والماتريدية ، نظرت هذه الجماعات الجديدة نظرة جادة إلى الانحراف الذي أصاب صلب العقيدة عن طريق المذاهب السالفة ، خصوصاً الأشاعرة الذين قويت شوكتهم وقوي سلطانهم ، واشتد الجدل بين السلفية وأصحاب المذاهب عامة ، وبينهم وبين الأشاعرة خاصة ، لأن كلا الفريقين يدعي لنفسه أنه الوحيد الذي يدعو إلى مذهب السلف ، ومالبث الفريق الجديد أن اشتد عضده ، حيث قام الإمام أحمد بن تيمية في القرن السابع يقود حركته ، ويغذي منهجه بالتأليف ، والرد على خصوم المذهب وقرع الحجة بالحجة ، والبرهان بالبرهان .

وإذا كانت السلفية عرفت هكذا في القرن السابع الهجري فليس معنى ذلك أنها أتت بجديد فواقع الأمر أن السلفيين هم امتداد لمدرسة الإمام أحمد بن حنبل ، وأن الحنابلة هم الذين وضعوا الأسس التي سار عليها السلفيون من بعد ، مثل الكلام في التوحيد وصلة ذلك بالأضرحة ، كما تناولوا آيات التأويل والتشبيه .
وقد حد السلفيون من سلطان العقل في القضايا الدينية ، وهذا النهج برغم خطورته وخشية أن يؤدي إلى الجمود ، فقد اضطر السلفيون إلى مسايرته اضطراراً بعد الشطحات والانزلاقات الكثيرة التي تردى فيها المعتزلة نتيجة لإخضاعهم كل أمور الدين للعقل .

لذلك فقد أدلى السلفيون بدلوهم في القضايا التي هزت كيان المجتمع الإسلامي العقائدي وخاض فيها أئمة الفرق المختلفة كالجبر والاختيار ، وخلق القرآن والوحدانية ، وهم في أقوالهم قد استمدوا تلك الآراء من الحنابلة الذين بنى السلفيون على آرائهم بحيث يمكن اعتبار المدرسة السلفية في ماضيها وحاضرها امتداداً لمدرسة أحمد بن حنبل ، ولكن العجيب هنا أنه إذا كان المعتزلة والمتصوفة يكفرون خصومهم الذين خاضوا في الحديث عن وحدانية الذات والصفات ، فإن السلفيين لم يكفروا خصومهم ، ولكنهم اعتبروهم أهل الزيع والأهواء ! خصوصاً الصوفية الذين يقولون بالاتحاد والفناء في الذات الإلهية لم يكفرهم السلف الصالح ، بل قالوا فيهم ماذكرنا .
وفي هذه الأيام تتحول " السلفية " إلى مصطلح جديد ، تندرج تحته فئة معينة من المسلمين تمتاز عن بقية المسلمين ببعض الفهوم المعينة ، وتختلف عنهم بمزاجها ومقاييسها ، لذلك أراها بهذا الوصف هي بدعة في الدين طارئة ، وإذا أردنا التفصيل فلا بد من الرجوع إلى كتاب الدكتور محمد رمضان البوطي ، فكلمة سلف تعني الماضين الغابرين ، قال تعالى " فجعلناهم سلفاً ومثلاً للآخرين " ، وكلمة سلف على عمومها لاتعني شيئاً محموداً أو مذموماً ، ولاتدل على معنى إسلامي ، لذلك وجب التخصيص بقولنا " السلف الصالح " ، وبعض هؤلاء لايفهم من حياة السلف إلا مايتعلق بالأمور الظاهرية ، فاهتمامهم ينصب على الثياب القصيرة ، واللحى الطويلة ، والشعور المفروقة ، وبعضهم يحاول أن ينقل في عصرنا بعض المعارك والقضايا التي لاوجود لها ، وهم يقرون أن " السلف الصالح " يتمثل في القرون الثلاثة الأولى ، وينسبون ابن تيمية وابن القيم إلى تلك المرحلة الزمنية المباركة ، رغم أنهم من أهل القرن الثامن ، ونحن مع احترامنا لهما إلا أننا لا نساويهما بأهل القرون الأولى من كبار الفقهاء والمحدثين والمفسرين ، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم شهد لتلك القرون بالخيرية ، كما أننا لانتخذهما أرباباً من دون الله ولا ننسب لهما العصمة ، ولانقلدهما في أقوالهما ، كما هو شأن أدعياء السلفية اليوم ، حيث تمحوروا حول بعض الشخصيات ، وأنزلوهم فوق منزلتهم ، وجعلوا آراءهم واجتهاداتهم ميزاناً تُقاس به اجتهادات وآراء العلماء الآخرين ، بل سيفاً مصْلتاً على رقابهم وتناسوا علماء الإسلام من محدثين ومفسرين وفقهاء ومربين ، وحسبوا وظنوا أن كثرة الكتب وإطالة الكلام هو معيار العلم ودليل الخيرية ، وليست كثرة الكلام وشقشقته دليل خيرية للمتأخرين على المتقدمين ، قال الحافظ بن رجب رحمه الله في " فضل علم السلف على علم الخلف " : وقد فتن كثير من المتأخرين بهذا – أي بكثرة الكلام – فظنوا أن من كثر كلامه وجواله وخصامه في مسائل الدين فهو أعلم ممن ليس كذلك ، وهذا جهل محض ، وانظر إلى أكابر الصحابة وعلمائهم كأبي بكر وعمر وعثمان وعلى ومعاذ وابن مسعود وزيد بن ثابت ، كيف كان كلامهم أقل من كلام ابن عباس وهم أعلم منه !

وكذلك كلام التابعين أكثر من كلام الصحابة ، والصحابة أعلم منهم ، وكذلك تابعو التابعين كلامهم أكثر من التابعين والتابعون أعلم منهم ، فليس العلم بكثرة الرواية ولا بكثرة المقال ، ولكنه نور يُقذف في القلب ، يفهم به العبد الحق ويميزه عن الباطل ، ويعبر عن ذلك بعبارات وجيزة محصلة للمقاصد .
ويواصل ابن رجب كلامه ... " وقد ابتلينا بجهلة من الناس يعتقدون في بعض من توسع في القول من المتأخرين أنه أعلم ممن تقدم ، لكثرة بيانه ومقاله ، ومنهم من يقول : هو أعلم من الفقهاء المشهورين المتبوعين ، وهذا تنقّص عظيم بالسلف الصالح وإساءة ظن بهم ، ونسبة لهم إلى الجهل وقصور العلم ولاحول ولاقوة إلا بالله " من كتاب ابن رجب الحنبلي ص 37 " فضل علم السلف على علم الخلف "

وهانحن اليوم نجد الصورة مكررة من أدعياء السلف ، الذين يدعون لشيوخهم أنهم أعلم أهل الأرض ، وأنهم أتوا بما لم يأت به الأوائل ، فيغالون في مديحهم ويطرونهم بما لايوصف به أحد من البشر ، في الوقت الذي ينهون فيه عن مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين أُثني عليه في محكم التنزيل ، وينكرون وصفه بالسيد بأبي هو وأمي ، وللأسف نرى من بعض أدعياء السلفية أن السلفية هي التزام الرأي الواحد في مسائل الفقه وفروع العقيدة ، ويضللون من خالف اجتهادهم ورأيهم في المسائل الفرعية النابعة من الاجتهادات ، ويهملون الاجتهادات الأخرى ، وبعضهم يرى أن حدةَ الكلام ، وسلاطةَ اللسان ، وإقناعَ القول قوةٌ في الدين ، ورسوخٌ في العقيدة ! والبعض الآخر يرى تصنيف الناس ، وهجر المبتدع ، وتجهم الوجه ، والاستطالة على الناس سلفية خاصة ، فليس من مذهب السلف – أيها السلفيون – حمل الناس على اعتقاد لم يعتقده الرسول وأصحابه ، ولا امتحان الناس بما لم يمتحنهم الله تعالى به ، والعمل على الفتنة وتفريق صفوف الأمة ، إن أدعياء السلفية – ولا أقصد العلماء الأفاضل الذين سلكوا منهج السلف علماً وعملاً وأدباً وخلقاً وسلوكاً – اليوم بحاجة إلى قراءة واعية لحياة السلف في زهدهم وعبادتهم وعلمهم ، وحسن أخلاقهم ، وجميل أوصافهم ، إنهم بحاجة لتصحيح كثير من المفاهيم المغلوطة ، والأفكار المنحرفة ، والسلوكيات الشائنة ، والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة للمسلمين وغيرهم ، والتي ليس منها تكفير الناس وتبديعهم وتفسيقهم والحط من قدرهم ، ونسبتهم إلى الخطأ والجهالة ، والاستدلال بآية تؤخذ على ظاهرها دون فقه معناها ، أو اجتزاء كلام من سياقه ، خدمة لأحقاد مريضة متأصلة ، فهذا الكلام ليس بالحق ، كما أنه ليس حقاً أريد به باطل ، بل هو محض باطل أراد به صاحبه التشكيك في تاريخ الناس ، والوصول إلى الشهرة على أشلاء وأعراض الآخرين ، إن الدين لن يشاد أحد إلا غلبه ، ومن التشديد على الناس ، محاسبتهم على النوافل والسنن كأنها فرائض ، وعلى المكروهات كأنها محرمات ، وتعظيم بعض الصغائر ، وعدم الاهتمام ببعض الكبائر كالربا والرشوة وأكل أموال الناس بالباطل ، وشهادة الزور والغيبة والنميمة والحسد والحقد ، والإضرار بالناس ، وافتراء بالأكاذيب ، وعدم إنزال الناس منازلهم ، إن أدعياء السلف لايجدون داعية يدعو إلى السعة والتيسير مفتياً الناس بما هو أرفق وأبعد للحرج عنهم في ضوء أحكام الشرع ومقاصده إلا ووُضِع عندهم في قفص الاتهام ، ووُصِف بالتحلل والتسيب ، بل يصل الأمر إلى التبديع والتفسيق والتكفير .

يقول الفيلسوف أرسطو : لابد أن يكون بين الذات المدركة والشيء المدرك نقطة تباعد ، لأن الالتصاق بالشيء يجعلك تغرق في التفاصيل فتحسب الجزء أصلاً ، كالذي لايعرف من الفيل إلا رجله ، ويصف الفيل كله دون دراية ! وماقاله أرسطو قالته العرب " أجافيكم لأعرفكم " ، " وأطلب بُعد الديار عنكم لتقربوا " ، ولن أفصّل القول ، بل سأذكر أن قضايا الأمة الأساسية كانت بعيدة عن التيار السلفي ، فانغرس البعض منهم في المراهنة على الحاكم ، فحرموا الخروج عليه ، وهذا للحق من بعض السلفية الذين هم معلومون للكافة ، وإن كان البعض الآخر لايوافقهم على ذلك ؛ فعوقبوا بالسجون وتلفيق القضايا ، وكذلك كان بعض شباب السلفية الثائر والذين خالفوا آراء مشايخهم ؛ فشاركوا في الثورة المصرية المباركة ، والبعض الآخر ينقلب اليوم مراهنين على ضعف الذاكرة المصرية ، وأذكر عناوين بعض كتبهم كـ " كالقول البته في عقد الكرافته " و " القول الوفا في حلق القفا " و " تذكير الصحبة في فضل النزول على الركبة "

و "سلطان غشوم أفضل من فتنة تدوم " !
لذلك فأنا أذكُر للجميع جزءاً من حديث الإيمان عندما سأل جبريل النبي محمداً صلى الله عليه وسلم : أخبرني ما الإيمان ؟ قال : الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وأن تؤمن بالقدر خيره وشره .... " ، وأنا أسأل - وأما السائل فلا تنهر - هل توجد فرقة في الإسلام لاتؤمن بهذه المباديء الستة ؟ إذن فما زاد فهو من إعمالات العقول والأفهام ، فلا تشغلنا الجزيرة السغيرة عن النهر العريض ، ولا تشغلنا الشجرة الواحدة عن الغابة الكثيفة ، فكل فرق الإسلام تؤمن بما جاء في حديث الإيمان " سنة – شيعة – خوارج – معتزلة – أشاعرة – ماتريدية – صوفية .. إلخ " لذلك فعلينا أن نهتم بأعماق الرسالة الإسلامية ونتحد جميعاً ، فقد قال تعالى " وإن هذه أمتكم أمة واحدة "
إنني أدعو التيار السلفي في مصر إلى ضرورة أن يراعي مصلحة الوطن ، وأن مصر فيها تجانس رائع بين مواطنيها ، باختلاف مذاهبهم وعقائدهم ، ولايوجد تخلخل تركيبي داخل هذا المجتمع ، وأن الثورة التي كانت سبباً في إنشاء التعددية الحزبية قامت لأجل مصر ، وليس لأجل جماعة معينة أو حزب معين ، فلايجوز لأحد أن يدعي الأستاذية في البناء والتشييد على هذا الشعب ، الذي هو أقدم شعب في التاريخ وله ميراثه الخاص ، وأن المملكة السعودية التي تمتليء بالمشايخ السلفية لايوجد بها مسيحي سعودي واحد ، ومع ذلك فإن الله إن جعل البيت الحرام آمناً بقوله " لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين " فقد قال " ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين " ، فالأمن معلّق على المشيئة في كليهما ، ومصر كلها حرم ، ودائماً مصر تنفي الخبث عنها ، وأسماها الصحابة رضوان الله عليهم بالمحروسة ، وأنا على ثقة أن الأحزاب الدينية في مصر ستكون على مستوى المسئولية ، وستكون في خدمة مواطنيها ، لأن معدن مصر يصبغ المصريين على اختلاف عقائدهم ومذاهبهم ، ونحن اليوم تحت شمس جديدة ، وحرية جديدة ، عمّت الخصيب والجديب ، والأخضر واليابس ، والنجد والوهد ، ومرحباً بالنور السلفي ، في ثوبه الجديد فنحن منهم وهم منا وعاشت مصرنا الجديدة ، ونسأل الله للجميع التوفيق ، حكام ومحكومين ومسلمين وأقباط .